عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: أن رسول الله أمر بقتل الكلاب
  
              

          3323- (ص) حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ: عَنْ مالِكٌ عَنْ نافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلابِ.
          (ش) الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا في (البُيوع) عن يحيى بن يحيى عن مالك، وأخرجه النَّسائيُّ في (الصيد) عن قُتيبة عن مالك، وأخرجه ابن ماجه فيه عن سويد بن سعيد عن مالك، وذهب مالكٌ وأصحابه وكثيرٌ من العلماء إلى جوازِ قتل الكِلاب إلَّا ما استُثنيَ منها، ولم يرَوُا الأمرَ بقتل ما عدا المستثنى منسوخًا، بل محكَمًا، وقام الإجماعُ على قتل العَقور منها، واختلفوا في قتلِ ما لا ضررَ فيه؛ فقال إمامُ الحَرَمين: أمر الشارع أوَّلًا بقتلها كلِّها، ثُمَّ نَسَخ ذلك، ونهى عن قتلها إلَّا الأسودَ البهيمَ، ثُمَّ استقرَّ الشرعُ على النهيِ عن قتلِ جميعِها إلَّا الأسوَدَ؛ لحديث عبد الله بن مُغَفَّل المزنيِّ: «لولا أنَّ الكلابَ أمَّةٌ مِن الأمم؛ لَأمرتُ بقتلها»، رواه أصحابُ السُّنَنِ الأربعة.
          ومعنى (البَهيم) : شيطانٌ بعيدٌ عنِ المنافع، قريبٌ مِنَ المضرَّة، وهذه أمورٌ لا تُدرَك بنظرٍ، ولا يُوصَل إليها بقياس، وإِنَّما يُنتهى إلى ما جاء عنِ الشارع، وقد روى ابنُ عبد البرِّ عنِ ابن عَبَّاس: أنَّ الكلاب مِنَ الجنِّ، وهي ضَعَفة الجنِّ، وفي لفظ: (السود منها جنٌّ، والبقع منها جنٌّ)، وقال ابن الأعرابيِّ: هم سَفِلةُ الجنِّ وضعفاؤهم، وقال ابن عُدَيس: يقال: كلب جنِّيٌّ، وروي عنِ الحسن وإبراهيم: أنَّهما يكرهانِ صيدَ الكلبِ الأسود البهيم، وإليه ذهب أحمدُ وبعضُ الشَّافِعِيَّة، وقالوا: لا يحلُّ الصيد إذا قتله، وعند أبي حنيفة ومالك والشَّافِعِيِّ: يحلُّ، وقال أبو عُمَر: الذي نختاره ألَّا يُقتَل منها شيءٌ إذا لم يضرَّ؛ لنهيِهِ أن يُتَّخذ شيءٌ فيه روحٌ غَرَضًا، ولحديث الذي سقى الكلب، ولقوله: «في كلِّ كبدٍ حرَّى أجرٌ»، وتركِ قتلها في كلِّ الأمصار وفيها العلماءُ ومَن لا يسامِحُ في شيءٍ مِنَ المنكر والمعاصي الظاهرة، وما علمتُ فقيهًا مِن فقهاء المسلمين جعل اتِّخاذ الكلاب جَرحةً، [ولا ردَّ قاضٍ شهادةَ مُتَّخذِها، ومذهبُ الشَّافِعِيِّ: تحريمُ اقتناء الكلب لغير حاجةٍ]، وقال أبو عُمَر: في الأمر بقتل الكلابِ دلالةٌ على عدم أكلها، ألا ترى إلى الذي جاء عن عُمَر وعثمان ☻ في ذبح الحَمام وقتل الكلاب؟
          وفيه: دلالةٌ على افتراق حُكمِ ما يُؤكَل وما لا يؤكَل؛ لأنَّه ما جاز ذبحُه وأكلُه؛ لم يجزِ الأمرُ بقتله، ومَن ذهب إلى الأسود منها بأنَّه شيطان؛ فلا حجَّةَ فيه؛ لأنَّ الله تعالى قد سمَّى مَن غلب عليه الشرُّ مِنَ الإنس شيطانًا، ولم يجبْ بذلك قتلُه، وقد جاء مرفوعًا: «في الحَمام شيطانٌ يتبع شيطانَه»، وليس في ذلك ما يدلُّ على أنَّهما مُسِخا مِن الجنِّ، ولا أنَّ الحمامة مُسِخت من الجنِّ، ولا أنَّ ذلك واجبٌ قتلُه.
          وقال ابنُ العربيِّ في حديث سقيِ الكلب: يحتمل / أن يكون قبل النهي عن قتلها، ويحتمل بعدها، فإن كان الأَوَّل؛ فليس بناسخٍ له؛ لأنَّه لمَّا أمر بقتل الكلاب؛ لم يأمر إلَّا بقتل كلابِ المدينةِ، لا بقتل كلابِ البوادي، وهو الذي نُسِخ، وكلابُ البوادي لم يرِدْ فيها قتلٌ ولا نسخٌ، وظاهر الحديث يدلُّ عليه، ولأنَّه لو وجب قتلُه؛ لَما وجب سقيُه، ولا يُجمَع عليه حرُّ العطش والموت؛ كما لا يُفعَل بالكافر العاصي، فكيف بالكلب الذي لم يَعصِ؟ وفي الحديث الصحيح: أنَّهُ صلعم لمَّا أمَرَ بقتل يهود؛ شكَوُا العطش، فقال: «لا تجمعوا عليهم حرَّ السيف والعطش»، فسُقُوا، ثُمَّ قُتِلوا.