عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب صفة إبليس وجنوده
  
              

          ░11▒ (ص) باب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان صفة إبليس وفي بيان جنوده.
          الكلام في صفته وحقيقة أمره على أنواع:
          الأَوَّل في اسمه:
          هل هو مشتقٌّ أو لا؟ فقال جماعة: هو اسم أعجميٌّ؛ ولهذا مَنَعَ الصرفَ العلميَّةُ والعُجمةُ، وقال ابن الأَنْبارِيِّ: لو كان عربيًّا؛ لصُرِف؛ كـ«إكليل»، وقال الطَّبَريُّ: إِنَّما لم يُصرَف وإن كان عربيًّا؛ لقلَّة نظيره في كلام العرب؛ فشبَّهوه بالعجميِّ، وهذا فيه نظر؛ لأنَّ كونَ قلَّة نظيره في كلام العرب ليس علَّةً من العلل المانعة الاسمَ من الصرف، وقال قوم: هو اسمٌ عربيٌّ مشتقٌّ مِن (أبلسَ) ؛ إذا يئسَ.
          وقال الجَوْهَريُّ: أبلس مِن رحمة الله؛ أي: يئس، ومنه سُمِّي إبليس، وكان اسمه عزازيل، قيل: مَنِ ادَّعى أنَّهُ عربيٌّ؛ فقد غلِط، ووجهه ما ذكرناه، ولكن روى الطَّبَريُّ عن ابن أبي الدنيا عن ابن عَبَّاس قال: كان اسمُ إبليس حيث كان عند الملائكة عزازيلَ، ثُمَّ أُبْلِس بعدُ، وهذا يُؤيِّد قولَ مَنِ ادَّعى أنَّهُ عربيٌّ، وعن ابن عَبَّاس: أنَّ اسمَه الحارثُ، وأَمَّا كنيته؛ فقيل: كانت كنيتُه أبا مُرَّة، وقيل: أبو العمر، وقيل: أبو كُرْدوس.
          النوع الثاني: في بيان أصل خلقه:
          وروى الطَّبَريُّ من حديث حَجَّاج عن ابن جُرَيْج عن صالح مولى التوءمة وشريك عن ابن عَبَّاس قال: إنَّ مِن الملائكة قبيلةً من الجنِّ، وكان إبليسُ منها، وعن ابن عَبَّاس: سَمَّى قبيلةً الجنَّ؛ لأنَّهم خُزَّان الجنَّة، وعن ابن عَبَّاس قال: إبليس مِن حيٍّ من أحياء الملائكة، يقال لهم: الجنُّ، خُلِقوا من نار السَّموم، وخُلِقَتِ الملائكةُ كلُّهم مِن النور غيرَ هذا الحيِّ، وعن الحسن البِصْريِّ: إنَّهُ من الشياطين، ولم يكن من الملائكة قطُّ، واحتجَّ بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ}[الكهف:50]، وقال مقاتل: لا من الملائكة، ولا من الجنِّ، بل هو خَلْقٌ منفردٌ من النار؛ كما خُلِق آدم ◙ من الطين، وقال شهر بن حَوْشَب: كان إبليس من الجنِّ الذين يعملون في الأرض الفساد، فأسره بعضُ الملائكة، فذهب به إلى السماء، ويقال: كان نوعٌ من الجنِّ سكَّانَ الأرض، وكان فيهم المُلكُ والنبوَّةُ والدينُ والشريعةُ، فاستمرُّوا على ذلك مدَّةً، ثُمَّ طغَوا وأفسدوا، وجحدوا الربوبيَّة، وسفكوا الدماء؛ فأرسل الله إليهم جُندًا من السماء، فقاتلوا معهم قتالًا شديدًا، فطردوهم إلى جزائر البحر، وأسرُوا منهم خَلْقًا كثيرًا، وكان فيمن أُسِر عزازيل، وهو إذ ذاك صبيٌّ، ونشأ مع الملائكة، وتكلَّم بكلامهم، وتعلَّم مِن علمهم، وأخذ يسوسُهم، وطالت أيَّامه حَتَّى صار رئيسًا فيهم، حَتَّى أراد الله خَلْقَ آدمَ، واتَّفق له ما اتَّفق، وروى عِكْرِمَةُ عن ابن عَبَّاس أنَّهُ قال: إبليس أصل الجانِّ والشياطين، وهو أبو الكلِّ، وروى مجاهد عنه أنَّهُ قال: الجانُّ أبو الجنِّ كلِّهم؛ كما أنَّ آدمَ أبو البشر.
          النوع الثالث: في حدِّه وصفته:
          أَمَّا حدُّه؛ فما ذكره الماورديُّ في «تفسيره» هو شخصٌ روحانيٌّ خُلِق مِن نار السَّموم، وهو أبو الشياطين، وقد رُكِّبت فيهم الشهواتُ، مشتقٌّ مِن الإبلاس؛ وهو اليأس من الخير.
          وأَمَّا صفته؛ فما قاله الطَّبَريُّ: كان الله قد حسَّنَ خَلْقَه وشرَّفه، وكرَّمه، وملَّكه على سماء الدنيا والأرض، وجعله مع ذلك مِن خُزَّان الجنَّة؛ فاستكبر على الله وادَّعى الربوبيَّة، ودعا مَن كان تحت يده إلى طاعته وعبادته، فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، وشوَّه خَلْقَه، وسلبه ما كان خوَّله، ولعنه، وطرده عن سماواته في العاجل، ثُمَّ جعل مسكنَه ومسكن شيعته وتُبَّاعه في الآخرة نارَ جهنم، انتهى.
          ويقال: كان يقال له: طاوُوس الملائكة؛ لحسنه، ثُمَّ مسخه الله تعالى، وقال عبد الله بن أحمد بإسناده عن ابن عَبَّاس قال: كان إبليسُ يأتي يحيى بن زكريَّا ♂ ؛ طمعًا أنْ يفتنَه، وعرف يحيى ذلك منه، وكان يأتيه في صُوَرٍ شتَّى، فقال له: أحبُّ أنْ تأتيَني في صورتك التي أنت عليها، فأتاه فيها؛ فإذا هو مشوَّهُ الخَلْقِ كريهُ المنظر، جسده جسد خنزير، ووجهه وجه قرد، وعيناه مشقوقتان طولًا، وأسنانه كلُّها عظمٌ واحدٌ، وليس له لحيةٌ، ويداه في منكبيه، وله يدان أخراوان في جانبيه، وأصابعه خلقة / واحدة، وعليه لباس المجوس واليهود والنصارى، وفي وسطه منطقة من جلود السباع، فيها كيزانٌ معلَّقةٌ، وعليه جلاجل، وفي يده جرس عظيم، وعلى رأسه بيضة من حديدة معوجَّةٌ؛ كالخُطَّاف، فقال يحيى ◙ : ويحك ما الذي شوَّه خِلقتك؟ فقال: كنت طاوُوسَ الملائكة، فعصيت الله، فمسخني في أخسِّ صورة؛ وهي ما ترى، قال: فما هذه الكيزانُ؟ قال: شهواتُ بني آدم، قال: فما هذا الجرسُ؟ قال: صوت المعازف والنَّوح، قال: فما هذه الخطاطيف؟ قال: أخطف بها عقولَهم، قال: فأين تسكن؟ قال: في صدورهم، وأجري في عروقهم، قال: فما الذي يعصمهم منك؟ قال: بغضُ الدنيا وحبُّ الآخرة.
          النوع الرابع: في أولاده وجنوده:
          وروى مجاهد عن ابن عَبَّاس أنَّهُ قال: بلغنا أنَّ لإبليسَ أولادًا كثيرين، واعتمادُه على خمسة منهم: ثَبَر، والأعور، ومِسوَط، وداسم، وزَلَنْبور، وقال مقاتل: لإبليسَ ألفُ ولدٍ، ينكِح نفسَه، ويلد ويبيض كلَّ يوم ما أراد، ومِن أولاده: المذهب، وخِنزَب، وهفَّاف، ومُرَّة، والولهان، والمتقاضي، وجعل كلَّ واحد منهم على أمرٍ ذكرتُه في «تاريخي الكبير».
          ومِن ذرِّيَّته: الأقنص، وهامة بن الأقنص ويلزون؛ وهو الموكَّل بالأسواق، وأمُّهم طرطيَّة، ويقال: بل هي حاضنتهم، ذكره النقَّاش، قالوا: باضت ثلاثين بيضة؛ عشرة بالمشرق، وعشرة بالمغرب، وعشرة في وسط الأرض، وأنَّه خرج مِن كلِّ بيضٍ جنسٌ مِن الشياطين؛ كالعفاريت والغيلان والجنَّان، وأسماءٍ مختلفة، كلُّهم عدوٌّ لبني آدم، أعاذنا الله من شرِّهم.
          وله جنودٌ يرسلهم إلى إضلال بني آدم، وقد روى ابن حِبَّان والحاكم والطبرانيُّ من حديث أبي موسى الأشعريِّ مرفوعًا قال: «إذا أصبح إبليس يبثُّ جنودَه، فيقول: مَن أضلَّ مسلمًا؛ ألبسته التاج...» الحديث، وروى مسلم مِن حديث جابر: سمعت رسول الله صلعم يقول: «عرش إبليسَ على البحر، فيبعث سراياه، فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنةً».
          (ص) وقال مُجاهِدٌ: {يُقْذَفُونَ} يُرْمَوْنَ، {دُحورًا} مَطْرُودِينَ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}[الصافات:8-9]، وفسَّر ({يُقْذَفُونَ}) بقوله: (يُرْمَوْنَ)، و({دُحُورًا}) بقوله: (مَطْرُودِينَ) كأنَّه جعل المصدرَ بمعنى المفعول جمعًا، وقد فسَّره عبد بن حميد من طريق ابن أبي نَجِيح عن مجاهد كذلك.
          (ص) {وِاصِبٌ} دائِمٌ.
          أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}[الصافات:9]، وفسَّر (الواصِبَ) بقوله: (دائِمٌ)، وقد ذكره البُخاريُّ وما بعده اتِّفاقًا واستطرادًا.
          (ص) وقال ابنُ عَبَّاس: {مَدْحُورًا} مَطْرُودًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:39]، ووصل هذا التعليقَ الطَّبَريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، و(المدحور) مفعولٌ مِن (الدَّحْر) ؛ وهو الدفع والإبعاد، مِن قولك: دحرته أدحره دحرًا ودحورًا، وفي «تفسير عبد بن حميد»: عن قتادة: {دحورًا} قذفًا في النار.
          (ص) يُقالُ: {مَرِيدًا} مُتَمَرِّدًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطانًا مَرِيدًا}[النساء:117] وفسَّر ({مَرِيدًا}) بقوله: (مُتَمَرِّدًا).
          (ص) بَتَّكَهُ: قَطَعَهُ.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذانَ الأَنْعامِ}[النساء:119] أي: ليُقَطِّعَنَّ، وفسَّر: (بَتَّكَهُ) بمعنى: (قَطَعَهُ)، وقال قتادة: يعني: البَحيرة؛ وهي إذا نتجت خمسةَ أبطنٍ، وكان آخرُها ذكرًا؛ شقُّوا أذنَها، ولم ينتفعوا بها؛ والتقدير: ولآمرنَّهم بتبتيك آذانهنَّ، وليبتِّكُنَّها.
          (ص) {واسْتَفْزِزْ} اسْتَخِفَّ، {بِخَيْلِكَ} الفُرْسانُ، والرَّجْلُ: الرَّجَّالَّةُ؛ واحِدُها: راجِلٌ؛ مِثْلُ: صاحِب وصَحْبٍ، وتاجِرٍ وتَجْر.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}[الإسراء:64]، وفسَّر قوله: ({اسْتَفْزِزْ}) بقوله: (اسْتَخِفَّ)، ويريد بـ(الصوت) الغناء والمزامير، وفسَّر (الخَيْلَ) بـ(الفُرْسانِ)، وفسَّر (الرَّجْلَ) بفتح الراء وسكون الجيم، وفسَّره بـ(الرَّجَّالَّة) بفتح الراء وتشديد الجيم، ثُمَّ قال: (واحِدُ الرَّجَّالَةِ) : (راجِلٌ)، ومثَّلَه بقوله: / (صاحِبٍ وَصَحْبٍ)، فإنَّ (الصَّحبَ) جمعُ (صاحب)، و(التَّجْر) بفتح التاء المُثَنَّاة مِن فوق: جمعُ (تاجِرٍ)، وقال ابن عَبَّاس: كلُّ خيل سارت في معصية، وكلُّ رَجْل مشَت فيها، وكلُّ ما أُصِيب مِن حرام؛ فهو للشيطان، وقال غيره: مشاركته في الأموال: البَحيرة والسائبة، وفي الأولاد: عبد العُزَّى وعبد الحارث.
          (ص) {لأحْتَنِكَنَّ} لأَستَأصِلَنَّ.
          (ش) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62] وفسَّر ({لأَحْتَنِكَنَّ}) بقوله: (لَأَسْتَأْصِلَنَّ) مِن الاستئصال.
          (ص) {قَرِينٌ} شَيْطانٌ.
          (ش) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36] وفسَّر (القَرِينَ) بـ(الشَّيطانِ)، وفسَّره مجاهد كذلك.