عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن}
  
              

          ░13▒ (ص) بابُ قَوْلِه تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ} إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:29-32].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان تفسير قوله تعالى: ({وَإِذْ صَرَفْنا})، فعن قريبٍ نذكر تفسير {صَرَفْنا}، وتمام الآية وما بعدها إلى قوله: ({أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}) هو قوله: {يَسْتَمِعُونَ القُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِياءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:29-32] وإِنَّما ذكر بعض هذه الآية، ثُمَّ قال: إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} إشارةً إلى أمور:
          الأَوَّل: فيه دلالة على وجود الجنِّ.
          الثاني: أشار إلى أنَّ في الجنِّ مؤمنين.
          الثالث: أشار إلى أنَّ المؤمنين منهم لهم الثواب، والكافرين منهم عليهم العقاب.
          قوله: ({وَإِذْ صَرَفْنا}) العامل في {إذ} محذوفٌ؛ تقديره: واذكر حين صرفنا إليك، ونذكر معنى {صرفنا} حيثُ ذكره البُخاريُّ عن قريبٍ، قال المفسِّرون: لمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ الإنسَ منهم مَن آمن، ومنهم مَن كفر؛ بيَّن أنَّ الجنَّ أيضًا منهم مَن آمن، ومنهم مِن كفر، وأنَّ مؤمنَهم معرَّضٌ للثواب، وأنَّ كافرَهم معرضٌ للعقاب.
          قوله: ({نَفَرًا}) مفعول {صَرَفْنا}، و(النَّفَر) دون العَشَرة، ومُلاقاة هؤلاء الجنِّ مع النَّبِيِّ صلعم حين انصرف مِنَ الطائف راجعًا إلى مكَّة، حين يئس مِن خير ثقيف، حَتَّى إذا كان بنخلةَ؛ قامَ في جوف الليل يُصلِّي، فمرَّ به نفرٌ مِن جنِّ أهل نَصيبين، وكان سببَ ذلك أنَّ الجنَّ كانت تسترقُ السمع، فلمَّا حُرِستِ السماءُ ورُجِموا بالشهب؛ قال إبليس: إنَّ هذا الذي حَدَث في السماء لِشيءٍ حَدَث في الأرض، فبعث سرايا؛ ليعرف الخبر، فكان أَوَّلَ بعثٍ ركبٌ مِن أهل نَصيبين، وهم أشراف الجنِّ وساداتهم، فبعثهم إلى تِهامة، فاندفعوا حَتَّى بلغوا وادي نَخلةَ، فوجدوا رسول الله صلعم يصلِّي صلاة الغَداة، ويتلو القرآن، فاجتمعوا إليه، قالوا: أنصِتوا؛ يعني: أصغُوا إلى قراءته.
          قوله: ({فَلَمَّا قُضِيَ}) أي: فلمَّا فَرَغ صلعم مِن تلاوته؛ ({وَلَّوْا}) أي: رجعوا ({إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}) أي: مُحذِّرين عذابَ الله إن لم يؤمنوا.
          قوله: ({قالُوا يا قَوْمَنا}) يعني: قالوا لهم: ({إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}) [ذهب بعضُهم إلى أنَّهم كانوا يهودًا؛ ولهذا قالوا: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى}]، وعن ابن عَبَّاس: كانت / الجنُّ لم تسمع أمرَ عيسى ◙ ؛ فلذلك قالوا: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى}.
          قوله: ({مُصَدِّقًا}) صفة لقوله: ({كِتابًا}) يعني: مصدِّقًا ({لِما بَيْنَ يَدَيْهِ}) مِن الكتب.
          قوله: ({يَهْدِي إِلَى الحَقِّ}) صفة لـ(الكتاب) بعد صفة، وكذلك قوله: ({إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}).
          قوله: ({قالُوا}) يعني: قالوا لقومهم: ({أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ}) أي: النَّبِيَّ صلعم .
          قوله: ({وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}) أي: مِن عذاب النار، وقالوا أيضًا: ({وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ}) أي: الرسولَ، ولم يؤمن به.
          قوله: ({فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ}) أي: لا ينجي منه مَهربٌ، ولا يسبق قضاءَه سابقٌ.
          قوله: ({أَولِياءُ}) أي: أنصارٌ يمنعونه منه، وعن ابن عَبَّاس: أنَّ هؤلاء الجنَّ كانوا سبعةً مِن جنِّ نَصيبين، فجعلهم رسول الله صلعم رسلًا إلى قومهم، وقيل: كانوا تسعةً، وقيل: وكانوا اثنَي عشر ألفًا، والسورةُ التي كان صلعم يقرؤها سورةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1]، وذكر ابن دُرَيد مِن أسماء هؤلاء الجنِّ خمسةً؛ وهم: سامر ومامر، ومنسي، وماسي، والأحقب، وذكر ابن سلَّام في «تفسيره» عن ابن مسعود: ومنهم عَمْرو بن جابر، وذكر ابنُ أبي الدنيا: زَوبعة، ومنهم سُرَّق، وفي «تفسير عبد بن حُمَيد»: كانوا مِن نينوى، وأتَوه بنخلةَ، وقيل: بشِعْبِ الحَجون.
          (ص) {مَصْرِفًا} مَعْدِلًا.
          (ش) أشار بِهِ إلى ما في قوله تعالى: {[وَلَمْ] يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا}[الكهف:35]، وفسَّره بقوله: (مَعْدِلًا)، وبه فسَّر أبو عبيدة.
          (ص) {صَرَفْنا} أي: وجَّهْنا.
          (ش) أشار به إلى ما في الآية المذكورة مِن قوله: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ}[الأحقاف:29]، وفسَّر: ({صَرَفْنا}) بقوله: (وَجَّهْنا) وقيل: معناه: أَمَلْنا إليك، وقيل: أقبلنا بهم نَحوَك، وقيل: ألجأناهم، وقيل: وفَّقناهم بصرفِنا إيَّاهم عن بلادِهم إليك.