عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم
  
              

          ░12▒ (ص) باب ذِكْرِ الجِنِّ وَثَوابِهِمْ وَعِقابِهِمْ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان وجود الجنِّ، وفي بيان أنَّهم يُثابون بالخير ويُعاقبون بالشرِّ،
          والكلام فيه على أنواع:
          الأَوَّل: في وُجُود الجِنِّ:
          فقال الشيخ أبو العَبَّاس بن تيمية ☼: لم يخالف أحدٌ مِن طوائف المسلمين في وجود الجنِّ، وجمهورُ طوائف الكفَّار على إثبات الجنِّ وإن وُجِد فيهم مَن ينكر ذلك منهُم، فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين _كالجهميَّة والمعتزلة_ مَن ينكر ذلك، وإن كان جمهورُ الطائفة وأئمَّتها مقرِّين بذلك؛ وهذا لأنَّ وجودَ الجنِّ تواترت به أخبارُ الأنبياء ‰ تواترًا معلومًا بالاضطرار، وقال إمام الحَرَمين في كتابه «الشامل»: اعلموا _رحمكمُ الله_ أنَّ كثيرًا مِنَ الفلاسفة وجماهيرِ القَدَريَّة وكافَّة الزنادقةِ أنكروا الشياطين والجنَّ رأسًا، ولا يبعُد لو أنكر ذلك مَن لا يتديَّن ولا يتشبَّث بالشريعة، وإِنَّما العجبُ مِن إنكار القَدَريَّة مع نصوص القرآن، وتواتر الأخبار، واستفاضة الآثار، وقال أبو القاسم الأنصاريُّ في «شرح الإرشاد»: وقد أنكرهم معظمُ المعتزلة، ودلَّ إنكارُهم إيَّاهم على قلَّة مبالاتِهم وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيلٌ عقليٌّ، وقد دلَّت نصوصُ الكتاب والسنَّة على إثباتهم، وقال القاضي أبو بكر الباقلانيُّ: وكثير مِن القدريَّة يثبتون وجود الجنِّ قديمًا، ويَنفون وجودَهم الآنَ، ومنهم مَن يقرُّ بوجودهم ويزعم أنَّهم لا يُرَون؛ لرقَّة أجسامهم ونفوذ الشُّعاع فيها، ومنهم مَن قال: إِنَّما لا يُرَون؛ لأنَّه لا ألوان لهم، وقال عبد الجبَّار المعتزليُّ: الدليلُ على إثباتهم السمعُ دون العقل؛ إذ لا طريقَ إلى إثباتِ أجسامٍ غائبة؛ لأنَّ الشيءَ لا يدلُّ على غيره مِن غير أن يكون بينهما تعلُّقٌ.
          النَّوع الثاني: في بيانِ ابتداءِ خَلْقِ الجِنِّ:
          قال أبو حذيفة إسحاقُ بن بِشْر القُرشيُّ في «المبتدأ»: حَدَّثَنا عثمان: حَدَّثَنا الأَعْمَش عن بُكير بن الأخنس، عن عبد الرَّحْمَن بن سابط القرشيِّ، عن ابنِ عَمْرو بن العاص قال: خلق الله الجنَّ قبل آدم بألفَي سنة، ويقال: عمَّروا الأرض ألفَي سنة، وعن ابن عَبَّاس: كان الجنُّ سكَّانَ الأرض، والملائكةُ سكَّان السماء، وهم عمَّارها، وقال إسحاق بن بِشْر: حدَّثني جُويبِر وعثمان بإسنادهما: أنَّ الله تعالى خلق الجنَّ وأمرهم بعمارة الأرض، فكانوا يعبدون الله تعالى، حتَّى طال بهم الأمد، فعصوُا الله، وسفكوا الدماء، وكان فيهم ملِكٌ يقال له: يوسف، فقتلوه، فأرسل الله عليهم جُندًا مِن الملائكة، كانوا في السماء الدنيا، كان فيهم إبليس، وهو على أربعة آلاف، فهبطوا، فنفَوا بني الجانِّ، وأجلَوهم عنها، وألحقوهم بجزائر البحر، وسكن إبليسُ والجندُ الذين كانوا معه الأرضَ، فهان عليهمُ العملُ، وأحبُّوا المكثَ فيها.
          النوع الثالث: في بيانِ خَلقِهِم ممَّاذا؟
          قال الله تعالى: {وَخَلَقَ الجانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ}[الرَّحْمَن:15] وروى مسلم مِن حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلعم : «خُلِقت الملائكة مِن نور، وخُلِق الجانُّ مِن مارجٍ مِن نار، وخُلِق آدم مِمَّا وُصِف لكم»، فثبت أنَّ أصلَ الجنِّ النارُ؛ كما أنَّ أصلَ الإنس الطين، وحكى الله تعالى في القرآن عن قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ}[الأعراف:12]، فهذا أيضًا يدلُّ على أنَّ أصلَ الجنِّ النارُ.
          فَإِنْ قُلْتَ: يجوز أن يَكذِب في ذلك أو يظنَّه، ولا يكونَ له به علمٌ.
          قُلْت: لو لم يكنِ الأمرُ على ما قال؛ لَما ترك الله تعالى تكذيبَه؛ لأنَّ [عدمَ] تكذيب الكاذب ممَّن لا يجوز عليه الخوفُ والجهلُ قبيحٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: في النار مِنَ اليُبْس ما لا يصحُّ وجودُ الحياة فيها، والحياةُ في وجودها تحتاجُ إلى رطوبةٍ.
          قُلْت: فالله قادرٌ على أن يفعل رطوبةً في تلك النار بمقدار ما يصحُّ وجود الحياة فيها، مع أنَّ أبا هاشمٍ جوَّز وجود الحياة معَ عدم التنفُّس، ويقول: إنَّ أهل النار لا يتنفَّسون.
          النوع الرابع: / في أنَّهم أجسامٌ، وأنَّهم على صورٍ مختلفة:
          قال القاضي أبو يَعْلَى مُحَمَّد بن الحسين بن الفَرَّاء الحنبليُّ: الجنُّ أجسام مؤلَّفة، وأشخاص ممثَّلة، ويجوز أن تكون رقيقةً، وأن تكون كثيفةً، خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنَّهم أجسامٌ رقيقة؛ ولرقَّتها لا نراهم.
          قلنا: الرقَّة ليست بمانعةٍ عنِ الرؤية في باب الرُّؤية، ويجوز أن تكون الأجسامُ الكثيفةُ موجودةً ولا نَراها إذا لم يخلق الله فينا الإدراك، وحكى أبو القاسم الأنصاريُّ عنِ القاضي أبي بكر: نحن نقول: إِنَّما رآهم مَن رآهم؛ لأنَّ اللهَ خلق لهم الرؤية، وإنَّ مَن لم يخلق له الرؤية لا يراهم، وإنَّهم أجساد مؤلَّفة وجُثَثٌ، وقال كثيرٌ مِنَ المعتزلة: إنَّهم أجسادٌ رقيقةٌ بسيطةٌ، وقال القاضي عبد الجبَّار: أجسام الجنِّ رقيقةٌ، ولضعف أبصارنا لا نراهم، لا لعلَّة أخرى، ولو قوَّى الله أبصارَنا أو كثَّف أجسامهم؛ لرأيناهم.
          وقال السُّهيليُّ: الجنُّ ثلاثة أصناف؛ كما جاء في حديث: صنفٌ على صُوَر الحيَّات، وصنفٌ على صُوَر الكلاب سودٌ، وصنف ريحٌ طيَّارة، أو قال: هفَّافة ذو أجنحة، وهم يتصوَّرون في صُوَر الحيَّات والعقارب، وفي صُوَر الإبِلِ والبقر، والغنم، والخيل، والبِغال، والحمير، وفي صورة الطير، وفي صُوَر بني آدم، وقال القاضي أبو يَعْلَى: ولا قُدرةَ للشياطينِ على تغيير خَلْقهم والانتقالِ في الصُّور، وإِنَّما يجوز أن يُعلِّمهمُ الله كلماتٍ وضَرْبًا مِن ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلَّم به؛ نقله مِن صورة إلى صورة، وأَمَّا أن يصوِّر نفسَه؛ فذاك محالٌ.
          النوع الخامس: في أنَّ الجنَّ على أنواع:
          منهم: الغُول؛ وهو العِفْريت، قالوا: إنَّ الغُولَ حيَوانٌ لم تحكمْه الطبيعة، وإنَّما لمَّا خرج منفردًا؛ توحَّش ولم يستأنس، وطلب القِفار، ويتلوَّن في ضُروبٍ مِنَ الصور، ويتراءى في الليل، وفي أوقات الخلَوات لمَن كان مسافرًا وحده، فيُتوهَّم أنَّهُ إنسانٌ، ويُضِلُّ المسافرَ عنِ الطريق، ومنهم: السِّعلاة؛ وهي مغايرةٌ للغُول، وأكثر ما يوجد في الغِياض، إذا ظفرَت بإنسان؛ تُرقِّصه وتلعب به كما يلعب السِّنَّور بالفأر، ومنهم: الغُدار، وهو يوجد بأكناف اليمن، وربَّما يوجد في أرض مِصْر، إذا عاينه الإنسان؛ خرَّ مغشيًّا عليه، ومنهم: الولهان، يوجد في جزائر البحر، وهو في صورة إنسان راكب على نعامة، يأكل الناسَ الذين يقذفهم البحرُ، ومنهم: الشِّقُّ؛ كنصف آدميٍّ بالطول، زعموا أنَّ النَّسناسَ مركبه، يظهر للناس في أسفارهم، ومنهم: مَن يأنس بالآدميِّين ولا يؤذيهم، ومنهم: مَن يختطف النساء الأبكار، ومنهم: مَن هو في صورة الوزَغ، ومنهم: مَن هو على صورة الكلاب.
          النوع السادس: في وجهِ تسميةِ الجنِّ بهذا الاسم:
          قال ابن دُرَيد: الجنُّ خلافُ الإنس، يقال: جنَّه الليل وأجنَّه، وجنَّ عليه، وغطَّاه؛ في معنًى واحد إذا ستره، وكلُّ شيء استتر عنك فقد جُنَّ عنك، وبه سُمِّيت الجنُّ، وكان أهلُ الجاهليَّة يُسمُّون الملائكةَ جنًّا؛ لاستتارهم عنِ العيون، والجنُّ والجِنَّة واحدٌ، والجُنَّة: ما واراك مِن سلاح، قال: والحنُّ؛ بالحاء المُهْمَلة: ضرب مِنَ الجنِّ، قال الراجز:
          يلعبنَ أحوالي مِن حِنٍّ وجنِّ
          وقال أبو عُمَر الزاهد: الحِنُّ كلاب الجنِّ وسَفِلَتُهم، ووقع في كلام السُّهيليِّ في «النتائج»: أنَّ الجنَّ [يشمل الملائكة وغيرَهم مِمَّا اجتنَّ عنِ الأبصار.
          النَّوع السَّابع: في بيان أنَّ الجنَّ]
هل يَأْكُلون ويَشْرَبون، ويتناكَحُون ويتوالَدُون؟
          وللنَّاس فيه أقوالٌ:
          الأَوَّل: أنَّ جميع الجنِّ لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قولٌ ساقطٌ.
          الثاني: أنَّ صنفًا منهم يأكلون ويشربون، وصنفًا لا يأكلون ولا يشربون.
          الثالث: أنَّ جميعهم يأكلون ويشربون، واختلفوا في صفة أكلهم وشربهم؛ فقال بعضهم: أكلُهم وشربُهم تشمُّمٌ واسترواحٌ، لا مَضْغٌ ولا بَلْعٌ، وهذا قولٌ لا يرِدُ عليه دليلٌ، وقال آخرون: أكلُهم وشربُهم مضغٌ وبلعٌ، ويدلُّ عليه ما رواه أبو داود مِن حديث أميَّة بن مخْشيٍّ، وفيه: «ما زال الشيطان يأكل معه، فلمَّا ذكر الله تعالى؛ استقى ما في بطنه»، وسُئلَ وَهْب بن منبِّه عنِ الجنِّ: ما هم؟ وهل يأكلون ويشربون، ويتناكحون ويتوالدون، ويموتون؟ فقال: هم أجناسٌ، فأَمَّا / خالص الجنِّ؛ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتوالدون، ومنهم أجناسٌ يأكلون ويشربون، ويتناكحون ويتوالدون؛ منهم السعالي والغُول والقُطرُب وغير ذلك، رواه أبو عُمَر بإسناده عنه.
          النوع الثامن: في بيان تكليف الجنِّ:
          [قال أبو عُمَر: الجنُّ عند الجماعة مكلَّفون مخاطبون؛ لقوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإِنْسِ}[الأنعام:130]وذكر عن الحشويَّة]: أنَّهم مضطرُّون إلى أفعالهم، وأنَّهم ليسوا بمكلَّفين، وعلى القول بتكليفهم؛ هل لهم ثوابٌ وعليهم عقابٌ أم لا؟ [واختلف العلماء فيه على قولين:
          فقيل: لا ثوابَ لهم إلَّا النجاة مِن النار، ثُمَّ يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم]
، وهو قول أبي حنيفة، حكاه ابن حزمٍ وغيرُه عنه، وقال ابن أبي الدنيا: حَدَّثَنا داود عن عمرٍو الضبِّيِّ: حَدَّثَنا عفيف بن سالم عن سفيان الثَّوْريِّ، عن ليث بن أبي سُلَيم قال: ثواب الجنِّ أن يُجاروا مِنَ النار، ثُمَّ يقال لهم: كونوا ترابًا.
          القول الثاني: أنَّهم يُثابون على الطاعة، ويُعاقبون على المعصية، وهو قول ابن أبي ليلى ومالكٍ والأوزاعيِّ وأبي يوسف ومُحَمَّد، ونُقِل أيضًا عن الشَّافِعِيِّ وأحمدَ، وسُئلَ ابن عَبَّاس ☻ فقال: نعم؛ لهم ثواب وعليهم عقاب، واتَّفق العلماء على أنَّ كافر الجنِّ يُعذَّب في الآخرة؛ لقوله تعالى: {والنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[محمَّد:12].
          واختلفوا في مؤمني الجنِّ؛ هل يدخلون الجنة؟ على أربعة أقوال:
          والجمهور على أنَّهم يدخلونها، وحكاه ابن حزمٍ في «المِلَل» عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف وجمهور الناس، قال: وبه نقول، ثُمَّ اختلفوا؛ هل يأكلون فيها ويشربون؟ فروى سفيان الثَّوْريُّ في «تفسيره» عن جويبِر عنِ الضحَّاك: أنَّهم يأكلون ويشربون، وعن مجاهد: أنَّهم يدخلونها، ولكن لا يأكلون ولا يشربون، ويُلهَمون مِن التسبيح والتقديس ما يجدُه أهلُ الجنَّة مِن لذَّة الطعام والشراب، وذهب الحارث المحاسبيُّ إلى أنَّهم يدخلون الجنة، نكونُ نراهم يوم القيامة ولا يروننا، عكس ما كانوا عليه في الدنيا.
          القول الثاني: أنَّهم لا يدخلون الجنَّة، بل يكونون في ربضها، يراهم الإنسُ مِن حيث لا يرونهم، وهذا القول مأثورٌ عن مالك والشَّافِعِيِّ وأحمد وأبي يوسف ومُحَمَّد، حكاه ابن تيميَّة، وهو خلافُ ما حكاه ابن حزم عن أبي يوسف.
          القول الثالث: أنَّهم على الأعراف.
          القول الرابع: الوقف.
          وروى الحافظ أبو سعيد مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الكنجروديُّ في «أماليه» بإسناده إلى الحسن عن أنسٍ ☺ عن النَّبِيِّ صلعم قال: «إنَّ مؤمِني الجنِّ لهم ثوابٌ وعليهم عقابٌ»، فسألنا عن ثوابهم، فقال: على الأعراف، وليسوا في الجنَّة، فقالوا: ما الأعراف؟ فقال: حائطُ الجنَّة، تجري منه الأنهار، وتَنْبُتُ فيه الأشجارُ والثِّمار، وقال الحافظُ الذهبيُّ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا.
          ثُمَّ إنَّ مؤمني الجنِّ إذا دخلوا الجنَّة؛ هل يرَون الله تعالى؟ فقد وقع في كلام ابنِ عبد السلام في «القواعد الصُّغرى» ما يدلُّ على أنَّهم لا يرَون الله تعالى، وأنَّ الرؤيةَ مخصوصةٌ بمؤمِني البشَر، فَإِنَّهُ صرَّح بأنَّ الملائكة لا يرَون الله تعالى في الجنَّة، ومقتضى هذا أنَّ الجِنَّ لا يَرَونَه.
          النوع التاسع: هل كان فيهم نبيٌّ منهم أو لا؟
          فروى الطَّبَريُّ مِن طريق الضحَّاك بن مُزاحِم إثباتَ ذلك، وجمهورُ العلماء سَلَفًا وخَلَفًا على أنَّهُ لم يكن مِن الجنِّ نبيٌّ قطُّ رسولٌ، ولم تكن الرسل إلَّا مِن الإنس، ونُقِل هذا عن ابن عَبَّاس وابن جُرَيْج ومجاهد والكلبيِّ وأبي عُبيد والواحديِّ، وذكر إسحاق بن بشر في «المبتدأ» عن ابن عَبَّاس: أنَّ الجنَّ قتلوا نبيًّا لهم قبل آدم ◙ ، اسمه يوسف، وأنَّ اللهَ بعث إليهم رسولًا، وأمرهم بطاعته، ومَن ذهب إلى قول الضحَّاك؛ يستدلُّ أيضًا بقوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ...} الآية[الأنعام:130].
          النوع العاشر: في بيان فِرَقِ الجنِّ:
          قد أخبر الله تعالى عن الجنِّ أنَّهم قالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا}[الجن:11] أي: مذاهب شتَّى؛ مسلمون ويهود، وكان جنُّ نصيبين يهودًا، وقال الإمام أحمد في كتاب «الناسخ والمنسوخ»: حَدَّثَنا مطَّلب بن زياد عن السُّدِّيِّ قال: في الجنِّ قدريَّةٌ ومرجئةٌ وشيعةٌ، وحكى السُّدِّيُّ أيضًا عن أشياخه: أنَّ في الجنِّ / المؤمنَ والكافرَ والمعتزلةَ والجَهميَّةَ وجميعَ الفِرَق.
          فوائد: قال الحسن البِصْريُّ: الشياطين أولاد إبليس لا يموتون إلَّا معه، والجنُّ يموتون قبله، وقال إسحاق: قال أبو روق عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاس قال: لمَّا خلق الله شوما أبا الجنِّ؛ وهو الذي خُلِق مِن مارجٍ مِن نارٍ؛ فقال تبارك وتعالى: تمنَّ، فقال: أتمنَّى أن نَرى ولا نُرى، وأن نغيبَ في الثرى، وأن يصير كهلُنا شابًّا، فأُعْطِي ذلك، فهم يَرون ولا يُرون، وإذا ماتوا؛ غُيِّبوا في الثرى، ولا يموت كهلُهم حَتَّى يعود شابًّا؛ يعني: مثلَ الصبيِّ، ثُمَّ يُرَدُّ إلى أرذل العمر، وسُئِلَ أبو البقاء العُكْبريُّ الحنبليُّ عنِ الجنِّ: هل تصحُّ الصلاةُ خلفهم؟ قال: نعم؛ لأنَّهم مكلَّفون، والنَّبِيُّ صلعم أُرسِل إليهم.
          (ص) لِقَوْلِهِ: {يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَياتِي} إلى قوله: {يَعْمَلُونَ}[الأنعام:130].
          (ش) (اللام) في: (لِقَوْلِهِ) للتعليل للترجمة؛ لأجل الاستدلال به، وجه الاستدلال: أنَّ قوله تعالى: {يُنْذِرُونَكُمْ} يدلُّ على العقاب، وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}[الأنعام:132] يدلُّ على الثواب، وتمام الآية.
          (ص) {بَخْسًا} نَقْصًا.
          (ش) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا}[الجن:13] وفسَّر (البخس) بقوله: (نَقْصًا) قال الفَرَّاء: البَخْسُ: النقص، والرَّهَقُ: الظُّلم، فدلَّت الآية أنَّ مَن يكفر يخاف، والخوف يدلُّ على كون الجنِّ مكلَّفين؛ لأنَّ الآيةَ فيهم.
          (ص) وَقالَ مُجاهِدٌ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا}[الصافات:158] قال كُفَّارُ قُرَيْشٍ: المَلائِكَةُ بَناتُ الله، وأُمَّهاتُهُمْ بَناتُ سَرَواتِ الجِنِّ، قال الله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158] ستُحْضَرُ لِلْحِسابِ، {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}[يس:75] عند الحِسابِ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في تفسير قوله تعالى: ({وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا}) : إنَّ (كُفَّارَ قُرَيْشٍ) قالوا: إنَّ (المَلائِكَةَ بَناتُ اللهِ)، وأمَّهات الملائكة هنَّ (بَناتُ سَرَواتِ الجِنِّ) أي: ساداتهم، و(السَّروات) جمع (سَراة) جمع (سَريٍّ)، وهو نادر شاذٌّ؛ لأنَّ (فَعَلات) لا يُجمَع على (فَعَلة)، كذا قاله صاحب «التوضيح»، وليس كذلك، والصواب ما قاله الجَوْهَريُّ: السَّرو: سخاءٌ في مروءة، يقال: سرا يسرو، وسَرِي _بالكسر_ يَسْرَى سَرَوًا، فيهما، وسرو يسرو سَراوةً؛ أي: صار سَريًّا، وجمع (السَّريِّ) : سَراة، وهو جمعٌ عزيزٌ أن يُجمَع (فَعِيل) على (فَعَلَة)، ولا يُعرَف غيرُه، وجمع (السراة) : سروات.
          وأثر مجاهد المعلَّق أخرجه ابن جرير مِن حديث ابن أبي نَجِيح عنه بزيادةٍ، فقال أبو بكر: فمَن أمَّهاتُهنَّ؟ فقالوا: بنات سَروات الجنِّ، يحسبون أنَّهم خُلِقوا مِمَّا خُلِق منه إبليسُ، لعنه الله، انتهى، ووقع هنا: (أمَّهاتهنَّ)، والصواب: أمَّهاتهم؛ مثل ما وقع في رواية البُخاريِّ.
          قوله: (قال الله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158]) وقبله: ({وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا}[الصافات:158]) أي: جعل مُشركو مكَّة بينه _أي: بين الله_ وبين الجِنَّة نَسَبًا؛ وهو زعمُهم أنَّ الملائكةَ بناتُ الله، [سَمَّوا الملائكة جِنَّة؛ لاجتنانهم عنِ الأبصار؛ والمعنى: جعلوا بما قالوا نسبةً بين الله] وبين الملائكة، وأثبتوا بذلك جنسيَّةً جامعةً لله وللملائكةِ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وقال الكلبيُّ: قالوا _لعنهم الله_: بل تزوَّج مِن الجنِّ، فخرج منها الملائكة _يُقال لهم: الجنُّ، ومنهم إبليس_ هم بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وقال الحسن: أشركوا الشياطينَ في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه.
          قوله: ({وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ}[الصافات:158]) أي: إنَّ قائلي هذا القولَ ({لَمُحْضَرُونَ}) في النار، وإذا فُسِّرت الجِنَّة بالشياطين؛ يجوز أن يكون الضمير في {إنَّهُمْ} للشياطين؛ والمعنى: ولقد علمتِ الشياطينُ إنَّهم لمحضرون؛ يعني: أنَّ الله يحضرهم النارَ ويعذِّبهم.
          قوله: ({جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}[يس:75]) هذا في آخر (سورة يس)، ولا تعلُّق له بالجنِّ، لكن ذكره لمناسبة الإحضار للحساب، وأَوَّل الآية: {واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}[يس:75]، أشار الله تعالى بهذه الآية إلى زيادة ضلالهم ونهايتها، فَإِنَّهُ كان الواجبَ عليهم عبادةُ الله تعالى؛ شكرًا لأنعُمِه، فتركوها، وأقبلوا على عبادة مَن لا يضرُّهم ولا ينفعهم؛ {لعلَّهم يُنصَرون}؛ أي: ليمنعَهم مِن عذاب الله، ولا يكون ذلك، و{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: خاب أملُهم، والأمرُ على خلاف ما توهَّموا وتوقَّعوا، {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} لعذابهم؛ لأنَّهم مع / أوثانهم في النار، فلا يدفع بعضُهم لبعضٍ النارَ؛ لأنَّهم يُجعَلون وَقودَ النار.
          وقال الكَرْمانِيُّ: ويحتمل أن يقال: لفظ {آلِهَة} في الآية متناوِلٌ للجنِّ؛ لأنَّهم أيضًا اتَّخذوهم مَعابيد، والله أعلم.
          قُلْت: كأنَّه أشار بهذا إلى وجه مناسبة ذكر [قوله: {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ههنا بما ذكره هو، وقال بعضهم: في الكُشْميهَنيِّ: <جند محضَر> بالإفراد.
          قُلْت]
: الصواب: محضَرون؛ لأنَّ القرآن هكذا.