الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما ينهى عن إضاعة المال

          ░19▒ (باب مَا يُنْهَى) ((ما)) مصدريَّة، و((يُنهى)) مبنيٌّ للمفعول (عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ) ((إضاعة)) بكسر الهمزةِ مصدرُ أضاعَه، ويقال: ضيَّعه بالتشديد، ومجرَّدُهما: ضاع، يُقال: ضاعَ يَضيعُ ضَياعاً _بالفتح_ هَلَكَ، قاله في ((المصباح)).
          قال ابنُ الملقِّن: اختلفَ العلماءُ في إضاعةِ المال، فقال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: إضاعةُ المالِ أن يرزُقَكَ الله رزقاً فتُنفِقَه فيما حرَّمَ الله عليك، وكذلك قال مالكٌ، وقيل: إضاعتُه السَّرَفُ في إنفاقهِ وإن كان فيما يحِلُّ، ألَا ترى أنه عليه السَّلامُ ردَّ تدبيرِ الـمُعدِم؛ لأنَّه أسرَفَ على مالِهِ فيما يحِلُّ له ويؤجَرُ فيه، لكنَّه أضاعَ نفسَه، وأجْرُه في نفسِه أَوكَدْ من أَجرِه في غيرِه، انتهى.
          وقال بعضُهم: يقالُ في الخير: أنفَقَ، وفي الشَّرِّ: أسرَفَ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بجرِّ ((قول))، ووقع في بعضِ الأصُول: <وقولِ الله ╡> ({وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}) ووقعَ للنَّسفيِّ كما في ((الفتح)) و((العُمْدة)): <إنَّ الله لا يُحِبُّ الفسَاد> وهو سهوٌ؛ فإنَّ التِّلاوةَ كالأولى، والفَسادُ خِلافُ الصَّلاح / .
          قال في ((المصباح)): فسَدَ الشيءُ فُسوداً، من باب قَعَدَ، فهو فاسِدٌ، والجمعُ فَسْدى، والاسمُ الفسَاد، ويتعدَّى بالهمزةِ والتَّضعيف، والـمفسَدةُ خِلافُ المصلَحة، والجمعُ الـمَفاسِد، انتهى.
          (وَ{إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}) الواو ليست من التِّلاوة، بل هي عاطفة؛ أي: لا يجعلُ اللهُ عملَ المفسدين ينفعُهم، وقال في ((الفتح)) ولابن شَبُّوَيْهِ والنَّسَفي: <لا يحبُّ> بدَلَ: ((لا يصلح)) قيل: وهو سهوٌ وجهلٌ، وعندي إنْ ثبتَ أنَّه لم يقصِدِ التِّلاوةَ، انتهى. لكنَّه بعيدٌ، كما قال العينيُّ.
          (وَقَالَ) أي: اللهُ تعالى بالماضِي فيه، وفي الذين بعدَه في سُورة هودٍ حكايةً عن قومِ شُعيبٍ (أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ) أي: بتَركِ (مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) أي: من الأصنامِ، قال البيضاويُّ: كان شُعيبٌ كثيرَ الصَّلاة، فلذلك جمَعوها، والمعنى: أصلواتُك تأمرُكُ بتكليفِ أن نترُكَ، فحذفَ الـمُضافَ لأنَّ الرَّجلَ لا يُؤمرُ بفعلِ غيرِه، قال: وقرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفصٌ على الإفرادِ.
          وقوله: (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) معطوفٌ على ((ما يعبد)) لا على ((أن نترُكَ)) كما قد يتبادرُ إلى بعضِ الأذهانِ لفسَاد المعنى، كما في ((مُغني ابنِ هشام)) والتَّفاسير، وذلك لأنه يلزمُ أنَّ صلاةَ شُعيبٍ عليه السَّلامُ تأمرُهم أن يفعلوا ما يشاؤون، وليس كذلك، وإسنادُ الأمرِ إلى الصَّلاة مَجازٌ، قال البيضاويُّ: وقُرئَ بالتاء فيهما على أنَّ العطفَ على ((أن نتركَ)) انتهى.
          وعلى القراءةِ المشهورةِ بالنون، فقال في ((الفتح)) قال المفسِّرون: كان ينهاهُم عن إفسَادها؛ أي: الأموالِ، فقالوا ذلك؛ أي: إنْ شئنا حفِظْناها، وإنْ شئنا طرَحْناها، انتهى.
          وقال آخرون: كان يأمرُهم بتركِ التَّطفيفِ والبَخْس، وقال زيدُ بنُ أسلمَ: كان ممَّا ينهاهُم شُعيبُ عليه السَّلام عنه وعُذِّبوا لأجلِه قطعُ الدَّنانيرِ والدَّراهم، كانوا يقرِضونَ من أطراف الصِّحاحِ لتفضُلَ لهم القُراضة، وكانوا يتعاملون بالصِّحاحِ عدداً، وبالمكسَّرةِ وزناً.
          ومُطابقةُ الحديثِ للتَّرجمةِ في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] لأنَّ قرضَهمُ الدَّراهمَ والدنانيرَ كما مرَّ إضاعةُ المال، وكذلك في الآيتَين قبلها؛ لأنَّ المفسِدَ والفسَادَ يحصُلُ بهما إضاعةُ المال، فافهم.
          (وقَالَ اللهُ تعَالى) أي: في سُورة النِّساء ({وَلاَ تُؤْتُواْ}) أي: ولا تُعطُوا ({السُّفَهَاءَ}) جمعُ سَفيه، قال ابنُ الملقِّن: يعني الجُهَّالَ بموضِعِ الحقِّ في الأموالِ؛ يعني: لا تُعطُوا نسَاءَكم وأولادَكم ({أَمْوَالَكُمْ}) فإنهم سُفَهاءُ، وهو فيهم أكثرُ، وأصلُه الخِفَّة، يقال: ثوبٌ سَفيهٌ: إذا كان خفيفاً، انتهى.
          وعن ابنِ عبَّاس ☻: لا تعمِدْ إلى مالِكَ وما خوَّلَك اللهُ به وجعلَه لك معيشةً فتُعطيَه امرأتَكَ أو بنيك، ثم تنظرَ إلى ما في أيديهِم، ولكِنْ أمسِكْ مالَك وأَصلِحْه، وأنت الذي تُنفِقُ عليهم من كِسْوتِهم ومُؤْنتِهم ورزقِهم.
          وقال في ((الفتح)): قال الطَّبَريُّ بعد أن حكى أقوالَ المفسِّرين في المرادِ بالسُّفَهاء: الصوابُ عندنا أنَّها عامَّةٌ في حقِّ كلِّ سَفيهٍ، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، والسَّفيهُ هو الذي يضيِّعُ المالَ ويُفسِدُه بسوءِ تدبيرِه، انتهى.
          وقال البيضاويُّ: نهيٌ للأولياء أن يؤتُوا الذين لا رُشْدَ لهم أموالَهم / فيُفسِدوها، وإنما أضاف المالَ إلى الأولياء لأنها في تصرُّفِهم وتحت ولايتِهم، وهو الملائمُ للآياتِ المتقدِّمةِ والمتأخِّرة، وقيل: نهيٌ لكلِّ أحدٍ أن يعمِدَ إلى ما خوَّلَه الله به من المال فيُعطيَه امرأتَه وأولادَه، ثم ينظُرَ إلى ما في أيديهم، وهو أَوفَقُ بقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] انتهى ملخَّصاً.
          وروى ابنُ أبي حاتِمٍ بسنده عن أبي أُمامةَ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((إنَّ النِّساءَ السُّفهاءُ، إلا التي أطاعَتْ قَيِّمَها)) وروى ابنُ أبي حاتمٍ أيضاً عن أبي هُريرةَ في: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] قال: الخدَمَ، وهم شياطينُ الإنس.
          وروى ابنُ جريرٍ عن أبي موسى: ثلاثةٌ يدعونَ الله فلا يستجيبُ لهم: رجلٌ كانَتْ له امرأةٌ سيِّئة الخُلُقِ فلم يطلِّقْها، ورجلٌ أعطى مالَه سَفيهاً، وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ورجلٌ كان له دَينٌ على رجُلٍ فلم يُشهِدْ عليه.
          (وَالْحَجْرِ فِي ذَلِكَ) بجرِّ الحَجْرِ عطفاً على المصدَرِ المؤوَّلِ مما ينهى، لا على إضَاعةِ المال، كما قال الحافظُ ابنُ حجرٍ والعينيُّ والقسطلانيُّ لفَسادِ المعنى، وأجابَ بعضُ الفُضلاءِ بأنه على حذفِ مُضافٍ؛ أي: وبابُ النَّهي عن أسباب الحَجْرِ، فتأمَّل.
          وذكرَ إشارةً للسَّفَهِ لفَهمِهِ من المقام، والحَجْرُ _بفتح الحاء_، وتقدَّمَ الكلامُ على معناه لغةً وشَرعاً في كتاب الاستقراض، وتقدَّمَ فيه عن ((القاموس)) أنَّه مثلَّثٌ بمعنى المنعِ، والأصلُ فيه نحوُ قولِه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] الآية.
          وقال ابنُ كثيرٍ: يؤخذُ الحَجْرُ على السُّفهاءِ من قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآيةَ، والحَجْرُ نوعان: نوعٌ شُرِعَ لمصلحةِ المحجورِ عليه كالصَّغير، ونوعٌ شُرِعَ لمصلحةِ الغَيرِ كالحَجْرِ على المريضِ في ثلُثَي مالِه لمصلحةِ الورَثةِ، والعبدِ لسيِّدِه، والـمُفلِسِ للغُرماء، والرَّاهنِ للمُرتهِن، والمرتدِّ للمُسلمين.
          قال في ((الفتح)): والجمهورُ على جوازِ الحَجْرِ على الكبيرِ خلافاً لأبي حنيفةَ وبعضِ الظاهريَّة، ووافقَ صاحباهُ الجمهورَ، وقال الطَّحاويُّ: لم أرَ عن أحدٍ منَ الصَّحابةِ ولا التَّابعينَ منعَ الحَجْرِ على الكبيرِ إلَّا عن إبراهيمَ وابنِ سيرين، ومن حُجَّةِ الجمهورِ حديثُ ابنِ عبَّاسٍ أنه كتبَ إلى نَجْدةَ: وكتبَتْ تسألُني متى ينقضي يُتمُ اليتيمِ، فلَعَمْري؛ إنَّ الرَّجلَ لَتنبُتُ لحيَتُه وإنه لَضعيفُ الأخذِ لنفسِهِ ضعيفُ العَطاء، فإذا أخذَ لنفسِهِ مِنْ صالِحِ ما أخذَ النَّاسُ فقد ذهبَ عنه اليُتْمُ. وهو وإنْ كان موقوفاً فقد وردَ ما يؤيِّدُه، كما سيأتي بعد بابَين، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: واختلَفَ العلماءُ في وجوبِ الحَجْرِ على البالغ المضيِّعِ لمالِهِ، فقال جمهورُ العلماء: يجبُ الحَجْرُ على كلِّ مضيِّعٍ لمالِهِ، صغيراً كان أو كبيراً، رُويَ ذلك عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ الزُّبيرِ وعائشةَ، وهو قولُ مالكٍ والأوزاعيِّ وأبي يوسُفَ ومحمَّدٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثور.
          وقالت طائفةٌ: لا يُحجَرُ على الحُرِّ البالغ، هذا قولُ النَّخعيِّ وابنِ سيرين، وبه قال أبو حنيفةَ وزُفرُ، قال أبو حنيفةَ: فإنْ حَجَرَ عليه القاضِي ثم أقرَّ بدَينٍ أو تصرُّفٍ في مالِه جازَ ذلك كلُّه.
          واحتَجَّ بحديثِ الذي يُخدَعُ في البيوعِ، فلم يمنَعْه النَّبيُّ صلعم من التَّصرُّف ولا حَجَرَ عليه، / بل قال له: ((إذا بايَعْتَ فقُلْ: لا خِلَابَةَ)) وحُجَّة الجماعةِ الآياتُ التي ذكرَها البخاريُّ، انتهى.
          ثم قال: واحتجَّ الطَّحاويُّ على أبي حنيفةَ فقال: لـمَّا قالَ له عليه السَّلامُ: ((إذا بايَعْتَ فقُلْ: لا خِلَابَةَ)) أي: لا شيءَ عليَّ من خِلابتِكَ إيَّايَ، جعلَ بُيوعَه مُعتبَرةً، فإنْ كان فيها خِلابةٌ لم يَجُزْ، وليس في هذا الحديثِ مَنعُ الحَجْرِ، إنَّما فيه اعتبارُ عقودِ المحجورِ عليه، انتهى، فتدبَّر.
          (وَمَا يُنْهَى عَنِ الْخِدَاعِ) ((ما)) مصدريَّة، وهي وصِلَتُها في تأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المصدرِ المؤوَّل، لا على إضاعةِ، والخِداعُ _بكسر الخاء المعجمةِ وبالدَّالِ المهمَلةِ_ مصدرُ خادعَه، ومجرَّدُه خَدَعَه.
          قال في ((القاموس)): خَدَعَه؛ كمَنَعَه خَدْعاً، ويُكسَرُ: خَتَلَه وأرادَ به المكروهُ من حيثُ لا يعلَمُ، كاختَدَعَه فانخَدَعَ، والاسمُ: الخَديعة، انتهى.
          وصِلةُ الخداعِ محذوفةٌ؛ أي: في البيع، كما قال الشُّرَّاحُ، وتحتمِلُ أعمَّ.