الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لصاحب الحق مقال

          ░13▒ (باب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ) بفتح الميم؛ أي: طلبٌ شديدٌ، فلا يُلامُ عليه، ترجمَ ببعضِ الحديث مع تغييرٍ يسيرٍ (وَيُذْكَرُ) بالبناءِ للمفعول (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: لَيُّ الْوَاجِدِ) بالجيم؛ أي: الغنيِّ كما في الحديث الآخر، من الوُجْد _بضمِّ الواو_ بمعنى: القُدرةِ والسَّعة، و((لَيُّ)) بفتح اللام وتشديدِ التَّحتيةِ مصدر لوى من باب رمى، وأصله لوْي _بسكون الواو_، قُلِبَتْ ياءً وأُدغِمَتْ في الياء، بمعنى: مطلُ القادرِ على قضاءِ دينِهِ.
          وجملة: (يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) خبَرُ ((لَيُّ الواجِدِ)) و((يُحِلُّ)) بضمِّ التحتية أوَّلَه، وبكسر الحاء المهمَلة، من الإحلال؛ / أي: يُجيزُ مَطلُ الغنيِّ لصاحبِ الدَّينِ أو الحاكم إذا رُفِعَ إليه الاستطالةَ عليه في عِرضِه وعقوبتِه.
          قال في ((الفتح)): وذكرَ الحديثَ المعلَّقَ لما فيه من تفسير المقالِ، وقد وصَله أحمدُ وإسحاقُ في ((مسندَيهما)) وأبو داودَ والنسائيُّ من حديث عمرِو بن الشَّريدِ بنِ أوسٍ الثَّقفيِّ عن أبيه بلفظِهِ، وإسنادُه حسَنٌ، قال: وذكرَ الطَّبرانيُّ أنه لا يُروى إلا بهذا الإسناد.
          (قَالَ سُفْيَانُ) أي: الثَّوريُّ في تفسير الحديث: (عِرْضُهُ) بكسرِ العينِ المهملة وسكونِ الراء، وبالضاد المعجمةِ؛ مَوضِعُ المدح والذَّمِّ من الإنسان (يَقُولُ) أي: صاحبُ الدَّين تِبيانُه (مَطَلْتَنِي) بتاء الخطاب، ولأبي ذرٍّ: <مطلَني> بحذفِها؛ أي: حقي.
          (وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ) بفتح الحاء المهملة وسكون الموحَّدة؛ أي: السِّجنُ، فيجوزُ أن يقولَ له ذلك تأديباً، وأن يحبِسَه حيثُ لم يُعطِه حقَّه؛ لأنه ظلمَه، والظُّلمُ حرامٌ وإنْ قلَّ.
          قال في ((الفتح)): وصَلَه البيهقيُّ من طريق الفِرْيابيِّ_وهو من شيوخ البُخاريِّ_ عن سُفيانَ بلفظ: عِرْضُه أن يقولَ مطلَني حقِّي، وعقوبتَه أن يُسجَنَ، وقال إسحاق: فسَّرَ سفيانُ عِرضَه أذاهُ بلسانه، وقال أحمدُ لِـما رواه عن وكيعٍ بسندِه:
          قال وَكيعٌ: ((عِرضَه)) شِكايتَه، وقال كلٌّ منهما: و((عقوبتَه)) حبْسَه، واستدلَّ به على مشروعيَّةِ حَبْسِ الـمَدينِ إذا كان قادراً على الوفاء تأديباً له وتشديداً عليه، قال: ووقع في الرَّافعيِّ في المتن المرفوع: ((لِيُّ الواجدِ ظُلمٌ، وعقوبتُه حَبسُه)) وهو تغييرٌ، وتفسيرُ العقوبةِ بالحَبسِ إنَّما هي من بعضِ الرُّواة، انتهى.
          قال ابنُ الملقِّن: وفسَّرَ الفقهاءُ الحديثَ كما فسَّرَه سفيانُ، قال: وهو كقولِه: إنَّ لصاحبِ الحقِّ مَقالاً؛ أي: بصفةِ المطْلِ، قال: وجاء في التنزيلِ مِصداقُه، قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] وهذه الآيةُ نزلَتْ في مانعِ الضِّيافة، فأُبيحَ له أن يقولَ في المانِعِ له: إنَّه لئيمٌ، وإنَّه لم يُقِرَّه، وشبهَ هذا.
          وقيل: نزلت في مَطْلِ الدَّين، وقيل: في الـمُكرَهِ على الكفرِ؛ لأنَّه مظلومٌ، وعقوبتُه بالحبسِ إذا رُجيَ له مالٌ أو وفاءٌ بما عليه، فإنْ ثبَتَ إعسارُه وجبَ نُظرتُه وحَرُمَ حَبسُه لزوال العِلَّةِ الموجِبةِ لحَبسِه؛ وهي الوُجدان.
          واختُلِفَ في ثابتِ العُسْرة، وأُطلِقَ من السِّجنِ، هل يُلازِمُه غريمُه؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ: لا، حتَّى يثبُتَ له مالٌ آخَرُ، وقال أبو حنيفةَ: لا يمنعُ الحاكمُ الغُرَماءَ من لزومِهِ.