الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته

          ░1▒ (بابُ مَنِ اشْتَرَى) أي: بيانُ حُكمِ مَنِ اشترى شيئاً (بِالدَّيْنِ) أي: إلى أجلٍ معلوم (وَلَيْسَ عِنْدَهُ) أي: عندَ مَنِ اشترى؛ أي: ليسَ في مِلكِه (ثَمَنُهُ) أي: الشَّيءِ المشترى المدلولِ عليهِ بـ(اشترى).
          (أَوْ لَيْسَ) أي: ثمنُه (بِحَضْرَتِهِ) أي: في مَجلسِ العقدِ، و((مَنْ)) موصولةٌ، أو نَكِرةٌ مَوصوفةٌ، مضافٌ إليها ((بابُ)) وظاهرُ صنيعِ ((الفتح)) أنَّها شرطيَّةٌ؛ حيثُ قدَّرَ بعد التَّرجمةِ: فهو جائزٌ، وبذلك صرَّحَ العينيُّ، انتهى.
          وجملة: ((وليس عنده... إلخ))، حاليةٌ، لكنْ مفهومُها ليسَ بقيدٍ، فقد قال شيخُ الإسلامِ: جرى في ذلك على الغالبِ، وإلا فلَه أنْ يشتريَ بالدَّينِ وإن كانَ الثَّمنُ عندَه أو بحَضرَتِهِ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وكأنَّه يشيرُ إلى ضَعفِ ما جاءَ عنِ ابن عبَّاسٍ مرفوعاً: ((لا أشتري ما ليسَ عِندي ثمَنُه)) وهو حديثٌ أخرجَه أبو داودَ والحاكمُ من طريقِ سمَاكٍ عن عِكرِمةَ عنه في أثناءِ حديثٍ تفرَّدَ به شَريكٌ عن سِمَاكٍ، واختُلِفَ في وَصلِه وإرسالِهِ، انتهى.
          وقد أجمعَ العلماءُ _كما قال العينيُّ وغيرُه_ على أنَّ الشِّراءَ بالدَّينِ جائزٌ؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ولأنَّ الشَّارعَ عليه السَّلامُ اشترى الجمَلَ من جابرٍ في سفَرِه بدَينٍ، ولم يَقضِهِ إلا بالمدينة، ولأنَّه اشترى طعاماً من أبي الشَّحمِ اليهوديِّ إلى أجلٍ.
          لكن اعترضَ ابنُ المنيِّرِ على ترجمةِ البُخاريِّ، فقال: فيها جَنَفٌ؛ لأنَّ مضمونَها جوازُ الاستقراضِ والدَّينِ لمَن ليس عندَه وفاءٌ، ويدخُلُ في ذلك مَنْ ليس له قدرةٌ على الوفاءِ إذا لم يعلَمِ البائعُ أو المُقرِضُ حالَه، وهذا تدليسٌ، قال: والذي في الحديثِ غيرُ هذا؛ لتحقُّقِ قدرتِه عليه السَّلامُ على وفائه، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: فقال: قلتُ: مع أنَّه عليه السَّلامُ قال: ((لا أشتري ما ليس عِندي ثمَنُه)) أخرجَه الحاكمُ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وصحَّحَه، وعند الحاكمِ أيضاً عن عائشةَ أنَّها كانت تَدَّانُ، فقيل لها: مالكِ والدَّينِ وليس عندَكِ قضاءٌ؟ قالت: إنِّي سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((ما مِنْ عبدٍ كانت له نيَّةٌ في أداءِ دينِه إلا كان له من الله ╡ عَونٌ، فأنا ألتمِسُ ذلك العَونَ)).
          وعن ميمونةَ بنتِ الحارثِ وعبد الله بنِ جعفرٍ مثلُه، وعن أبي أُمامةَ مرفوعاً: ((مَنْ تدايَنَ وفي نفسِهِ وفاؤُه، ثم ماتَ تجاوزَ اللهُ / عنه، وأرضَى غريمَه بما شاءَ، ومَنْ تدايَنَ بدَينٍ، وليس في نفسِهِ وَفاؤُه، ثم ماتَ، اقتصَّ اللهُ لغريمِهِ منه يومَ القيامةِ)).
          قال: وقد صحَّ ما يقتضي التَّشديدَ فيه، فأخرجَ على شرطِ مسلمٍ من حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعاً: ((الدَّينُ رايةُ اللهِ في الأرض، فإذا أرادَ أن يُذِلَّ عبداً وضعَها في عنُقِهِ)) وأخرجَ من حديثِ محمَّد بنِ جحشٍ _وقال: صحيحُ الإسنادِ_ أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((سبحانَ الله؛ ما أنزلَ اللهُ من التَّشديدِ؟)) فسُئلِ عن ذلك التَّشديدِ، قال: ((الدَّينُ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، لو قُتِلَ رجلٌ في سبيلِ الله، ثم عاشَ وعليه دينٌ، ما دخل الجنَّةَ حتى يقضيَ دينَه)).
          وأخرج أيضاً من حديثِ عُقبةَبنِ عامرٍ _وقال: صحيحُ الإسنادِ_ مَرفوعاً: ((لا تُخيفوا أنفُسَكم)) قيل: يا رسولَ الله؛ وما يُخيفُ أنفُسَنا؟ قال: ((بالدَّين)).
          ومن حديثِ ثَوْبانَ _وقال: على شَرطِهما_ مرفوعاً: ((مَنْ ماتَ وهو بريءٌ من ثلاثٍ: الكِبْرُ، والغُلولُ، والدَّينُ، دخلَ الجنَّةَ)) وأسلَفْنا حديثَ أبي هريرةَ مرفوعاً: ((نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بدَينِهِ حتى يُقضَى دَينُه)) قال الحاكم: صَحيحٌ على شَرطِ الشَّيخَين.