الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة

          ░12▒ (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْبُصَاقِ): بضمِّ الموحدة وبالصاد، ويجوز إبدالها زاياً وسيناً (وَالنَّفْخِ): بالخاء المعجمة آخره (فِي الصَّلاَةِ): أي: إذا لم يظهر بذلك حرفٌ مفهمٌ أو حرفان مطلقاً، وإلا فيجوزُ، ومثلهما العطاسُ والسُّعال والبكاءُ والأنين، وهو مذهبُ الشَّافعيَّة، وجوَّز في ((الفتح)) أيضاً أن المصنِّفَ يرى الفرقَ بين ما إذا كان حصولُ ذلك محقَّقاً فيضرُّ وإلا فلا.
          وقال ابنُ بطَّال: اختلفَ العلماءُ في النَّفخ في الصَّلاةِ، فكرهه طائفةٌ ولم توجبْ على من نفخَ إعادةً، وهو مرويٌّ عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاس والنَّخعي، وهو رواية عليِّ بن زياد عن مالك قال: أكرهُ النَّفخ في الصَّلاةِ ولا يقطعُها كما يقطعُها الكلام، وهو قولُ أبي يوسف وأشهبُ وأحمد وإسحاق، وقالت طائفةٌ: هو بمنزلةِ الكلام يقطعُ الصلاة، وهو مرويٌّ عن سعيدِ بن جُبير وهو قولُ مالكٍ في ((المدونة)) وفيه قولٌ ثالث: أن النَّفخَ إن كان يسمعُ فهو بمنزلة الكلام فيقطعُ الصَّلاة، وهو قولُ أبي حنيفةَ رحمةُ الله عليه والثَّوري ومحمد، والقولُ الأوَّلُ أولى لما ذكرهُ البخاري في الباب من حديثِ ابن عمرو عن النَّبي صلعم.
          ثمَّ قال: ويدلُّ على صحَّة هذا اتِّفاقهم على جوازِ التَّنخُّمِ والبُصاق في الصَّلاةِ إذ ليس بين البصاقِ والنَّفخِ فرقٌ، ولذلك ذكر البخاريُّ البصاقَ ليستدلَّ به على جواز النَّفخِ؛ لأنَّهُ لم يسند حديثَ ابن عَمرو، وهو استدلالٌ حسنٌ، انتهى ملخَّصاً.
          (وَيُذْكَرُ): بالبناء للمفعول (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو): بفتح العين؛ أي: ابن العاصي (نَفَخَ النَّبِيُّ صلعم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ): ولابن عساكر: <في الكسوف> أي: في كسوفِ الشَّمس، وهو محمولٌ على ما مرَّ، وعورضَ بما ثبتَ عند أبي داود من حديثِ ابن عَمرو وفيه: ((ثمَّ نفَخَ في آخرِ سُجودِهِ فقال: أُفْ أُفْ)) فصرَّح بالحرفين، وفي الحديثِ أيضاً أنه صلعم قال: ((عُرضَتْ عليَّ النَّارُ فجعَلْتُ أنْفُخُ خشيَةَ أن يغشَاكُمْ حَرُّهَا)).
          وأجابَ الخطَّابي: بأن أفْ لا يكون كلاماً حتى تشدد الفاء.
          وردَّه ابن الصَّلاح: بأنه لا يستقيمُ على قول الشَّافعية أنَّ الحرفين كلام مبطلٌ أفهما أو لم يفهما.
          وقال البيهقيُّ: ذاك من خصَائصِ النَّبي صلعم، ورُدَّ: بأن الخصائصَ لا تثبتُ بالاحتمال.
          وقال ابنُ دقيق العيد: ولقائلٍ أن يقول: لا يلزمُ من كون الحرفين يتألَّفُ منهما الكلام أن يكون كلُّ حرفين كلاماً وإن لم يكن كذلك فالإبطالُ به لا يكون بالنَّصِّ، بل القياسُ وشرطه: مساواةُ الفرعِ للأصل، قال: والأقربُ: أن ينظرَ إلى مواقعِ الإجماع والخلاف، حيث لا يسمَّى الملفوظُ به كلاماً فما أجمعَ على إلحاقهِ بالكلامِ ألحقَ به، وما لا فلا.
          قال: ومن ضعيفِ التَّعليلِ قولهم: النَّفخُ يشبهُ الكلام، فإنَّه مردودٌ لثبوت السُّنَّة الصَّحيحة بأنه عليه الصلاة والسلام نفخَ في الكُسُوفِ، انتهى.
          وهذا التَّعليقُ وصله أحمدُ، وصحَّحهُ ابنا خُزيمة وحبَّان والطَّبري وفيه: ((وجعلَ النَّبيُّ صلعم ينفُخُ في الأرضِ ويَبكِي وهو ساجِدٌ، وكان ذلكَ في الرَّكعةِ الثَّانيةِ))، ورواهُ الترمذيُّ والنسائي والحاكم في ((المستدرك)) وقال: صحيحٌ، وإنما مرضهُ البخاريُّ؛ لأنه من روايةِ عطاء بن السَّائب عن أبيه، وهو مختلفٌ في الاحتجاجِ به لاختلاطهِ آخر عمره، وليس هو من شرطِ البخاري، وإن أجيبَ عنه بأنه سمعَ منه قبلَ اختلاطه.