نجاح القاري لصحيح البخاري

باب مشروعية الاعتكاف في العشر الأواخر

          ░1▒ (باب) مشروعيَّة (اِلاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ) من رمضان، وقد ورد الاعتكاف بلفظ المجاورة، ففي «الصَّحيح» من حديث أبي سعيد ☺: ((كان رسول الله صلعم يجاور في العشر الأوسط من رمضان)) [خ¦2018]، الحديث. وفي «الصحيح» أيضاً في قصَّة بدء الوحي [خ¦3]: ((أنَّه كان يجاور بحراء)).
          وقد اختلفوا هل المجاورة هو الاعتكاف أو غيره؟ فقال عَمرو بن دينار: الجوار والاعتكاف واحدٌ. وسُئل عطاء بنُ أبي رباح: أرأيتَ الجوار والاعتكاف أمختلفان هما أم شيءٌ واحد؟ وقال: هما مختلفان، كانت بيوت النَّبي صلعم في المسجد، فلمَّا اعتكف في شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه، قيل له: فإن قال إنسان: عليَّ اعتكاف أيَّام ففي جوفه لابدَّ؟ قال: ((نعم، وإن قال: عليَّ جوار أيَّام ففي بابه أو في جوفه إن شاء))، هكذا رواه عبد الرَّزَّاق في «المصنف» عنهما.
          قال الشَّيخ زينُ الدِّين العراقي: وقول عَمرو بن دينار هو الموافقُ للأحاديث، ولمّا ذكر صاحب «الإكمال» حدَّ الاعتكاف، قال: وسمِّي جواراً أيضاً.
          (وَالاِعْتِكَافِ) بالجرِّ عطفاً على سابقه (فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا) لأنَّه لا يصحُّ في غير المساجد، وجمع المساجد وأكَّدها بلفظ: كلِّها، / إشارة إلى أنَّ الاعتكاف لا يختصُّ بمسجد دون مسجد، وفيه خلاف: فقال حذيفة: لا اعتكاف إلَّا في المساجد الثَّلاثة: مسجد مكَّة والمدينة والأقصى. وقال سعيد بن المسيَّب: لا اعتكاف إلَّا في مسجد النَّبي صلعم . وفي كتاب «الصَّوم» لابن أبي عاصم بإسناده إلى حذيفة: لا اعتكاف إلَّا في مسجد رسول الله صلعم . وروى الحارث عن عليٍّ ☺: لا اعتكاف إلَّا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة.
          وذهب هؤلاء إلى أنَّ الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبيٌّ؛ لأنَّ الآية نزلت على رسول الله صلعم وهو معتكفٌ في مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد ممَّا بناه نبي.
          وذهب طائفة إلى أنَّه لا يصحُّ الاعتكاف إلَّا في مسجدٍ تُقام فيه الجمعة، روي ذلك عن عليٍّ وابن مسعود ☻ وعروة وعطاء والحسن والزُّهري، وهو قول مالك في «المدونة»، قال: أمَّا من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلَّا في الجامع. وهو مذهب الحنابلة، قال في «الإنصاف»: لا يخلو المعتكف إمَّا أن يأتي عليه في مدَّة اعتكافه فعل صلاة وهو ممَّن تلزمه الصَّلاة أو لا، فإن لم يأت عليه في مدَّة اعتكافه فعل صلاة فهذا يصِحُّ اعتكافه في كلِّ مسجد، وإن أتى عليه في مدَّة اعتكافه فعل صلاة لم يصحَّ إلَّا في مسجد يصلَّى فيه الجماعة على الصَّحيح من المذهب.
          وقالت طائفة: الاعتكاف يصِحُّ في كلِّ مسجد، روي ذلك عن النَّخعي وأبي سلمة والشَّعبي، وهو قول أبي حنيفة والثَّوري والشَّافعي في الجديد وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وهو قول مالك في «الموطأ»، وهو قول الجمهور، والبخاري أيضاً حيث استدلَّ بعموم الآية في سائر المساجد، وبه قال محمَّد وأبو يوسف.
          وقال صاحب «الهداية»: الاعتكاف لا يصحُّ إلَّا في مسجد الجماعة. وعن أبي حنيفة ☼ : أنَّه لا يصحُّ إلَّا في مسجد يصلَّى فيه الصَّلوات الخمس. وقال الزُّهري والحكم وحمَّاد: وهو مخصوص بالمساجد التي تجمع فيها.
          وفي «الذَّخيرة» للمالكيَّة: قال مالك: يعتكف في المسجد سواء أقيم فيه الجماعة أم لا. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنَّ الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنَّفل يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة.
          وفي «الينابيع»: لا يجوز الاعتكاف الواجب إلَّا في مسجدٍ له إمام ومؤذِّن معلوم، يصلَّى فيه خمس صلوات. وروى الحسن عن أبي حنيفة: ((أنَّ أفضلَ الاعتكاف ما كان في المسجد الحرام، ثمَّ في مسجد النَّبي صلعم ، ثمَّ في بيت المقدس، ثمَّ في المسجد الجامع، ثمَّ في المساجد التي يكثر أهلها ويعظم)).
          وقال النَّووي: ويصحُّ في سطح المسجد ورحبته؛ لأنَّهما من المسجد. /
          وقال أيضاً: المرأة لا يصحُّ اعتكافها إلَّا في المسجد كالرَّجل. وقال ابن بطَّال: قال الشَّافعي: تعتكفُ المرأة والعبد والمسافر حيث شاؤوا.
          وقال أصحابنا الحنفيَّة: المرأةُ تعتكفُ في مسجد بيتها، وبه قال النَّخعي والثَّوري وابن عليَّة، ولا تعتكف في مسجد جماعة، ذكره في الأصل. وفي «منية المفتي»: لو اعتكفت في المسجد جاز. وفي «المحيط»: روى الحسن عن أبي حنيفة جوازه وكراهته في المسجد. وفي «البدائع»: لها أن تعتكف في مسجد الجماعة في رواية الحسن عن أبي حنيفة، ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيِّها، ومسجد حيِّها أفضل لها من المسجد الأعظم، والله أعلم.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]) معتكفون فيها. ووجه الدَّلالة من الآية أنَّه لو صحَّ في غير المسجد لم يختصَّ تحريم المباشرة به؛ لأنَّ الجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلَّا فيها.
          ونقل ابنُ المُنذر الإجماع على أنَّ المراد بالمباشرة في الآية الجماع. وقد تقدَّم [خ¦30/15-2997] قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187].
          وقال عليُّ بنُ طلحةَ عن ابن عبَّاس ☻ : هذا في الرَّجل يعتكف في المسجد في رمضان، أو في غيره يحرم عليه أن ينكحَ النِّساء ليلاً أو نهاراً حتَّى يقضي اعتكافه.
          وقال الضَّحَّاك: كان الرَّجل إذا اعتكف فخرجَ من المسجد جامع إن شاء، فقال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] أي: لا تقربوهنَّ ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره.
          وروى الطَّبريُّ وغيره عن قتادة: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزلت، وكذا قال مجاهد وغيره أنَّهم كانوا يفعلون ذلك حتَّى نزلت هذه الآية. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود ☺ ومحمَّد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضَّحَّاك والسُّدي والرَّبيع بن أنس ومقاتل قالوا: لا يقربها وهو معتكف، وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتَّفق عليه عند العلماء. قالوا: إنَّ المعتكف يحرم عليه النِّساء ما دام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله / لحاجة لا بدَّ منها فلا يحلُّ له أن يلبث فيه إلَّا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من غائطٍ أو بولٍ أو أكلٍ، وليس له أن يقبِّل امرأته ولا يضمَّها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعودُ مريضاً لكن يسأل عنه وهو مارٌّ في طريقه. واتَّفقوا على فسادهِ بالجماع، حتَّى قال الحسنُ والزُّهري: من جامعَ فيه لزمته الكفَّارة. وعن مجاهد: يتصدَّق بدينارين.
          واختلفوا في غير الجماع: ففي المباشرة أقوال: ثالثُها إن أنزلَ بطل وإلَّا فلا. وقيل: يحرم عليه التَّقبيل واللَّمس بشهوة بالشُّروط المذكورة في الصَّوم، فإذا أنزل معهما أفسده، بخلاف ما إذا لم ينزل معهما، أو أنزل معهما وكانا بلا شهوة كما في الصَّوم.
          ({تِلْكَ}) أي: الأحكام التي ذكرت في الصِّيام من المباح والحرام والغاية والرُّخصة والعزيمة ({حُدُودُ اللَّهِ}) الحاجزة بين الحقِّ والباطل ({فَلاَ تَقْرَبُوهَا}) لئلا تدانوا الباطل، كما قال صلعم : ((إنَّ لكلِّ ملك حمىً، وإنَّ حمى الله محارمه، فمن رتعَ حول الحمى يوشك أن يقعَ فيه)) [خ¦52]، وهو أبلغ من قوله: ولا تعتدوها، وذلك لأنَّ مَن كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرِّف في حيِّز الحقِّ فنهي أن يتعدَّاه؛ لأنَّ من تعدَّاه وقع في حيِّز الباطل.
          ثمَّ بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحدَّ الذي هو الحاجز بين حيِّزي الحقِّ والباطل لئلَّا يداني الباطل، ولأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطَّرف فضلاً أن يتخطَّاه، ويجوز أن يراد بـ: {حُدُودُ اللَّهِ} محارمه ومناهيه خصوصاً؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ}، وهي حدٌّ لا يقرب، والله أعلم.
          ({كَذَلِكَ}) مثل ذلك التَّبيين ({يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ}) سائر أحكامه على لسان نبيِّه صلعم ({لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}) مخالفة الأوامر والنَّواهي بأنَّهم كانوا يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون، وفي رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت: <{فَلَا تَقْرَبُوهَا} إلى آخر الآية>، وفي رواية ابن عساكر: سقط من قوله: <{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} [البقرة:187] إلى آخر الآية>.