نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر

          1503- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ) بفتح السين المهملة والكاف آخره نون، هو: ابن حبيب، أبو عبيد الله البزَّار، بالزاي ثم بالراء، القرشي البصري، قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ) بفتح / الجيم والضاد المعجمة وسكون الهاء بينهما وآخره ميم، ابن عبد الله اليماني، ثمَّ الخراساني الثَّقفي، سكن البصرة فعدَّ من أهلها، قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن كثير، أبو إبراهيم الأنصاري (عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ) بضم العين، مولى عبد الله بن عمر ☻ ، مات بالمدينة زمن المنصور، وليس لعمر في هذا الصَّحيح سوى هذا الحديث، وآخر في النَّهي عن القزع [خ¦5920].
          (عَنْ أَبِيهِ) نافع مولى ابن عمر ☻ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ) قال أبو عمر: قوله: فرض يحتمل وجهين: أحدهما: وهو الأظهر أنَّ فرض بمعنى أوجب، والآخر: أنَّه بمعنى قدرَّ قال: والذي أذهب إليه أن لا يُزال قوله: فرض عن معنى الإيجاب إلَّا بدليل الإجماع، وذلك معدوم هنا، فإنَّ القول بأنَّها غير واجبة، شاذ أو في معنى الشَّاذ فقال أصحابنا: بأنَّها واجبة على حقيقتها الاصطلاحيَّة، وهي أن يكون بين الفرض والسنَّة.
          وقال الشَّافعي: فرض؛ بناءً على أصله أنَّه لا فرق بين الواجب والفرض. وقال تاج الشَّريعة من الحنفيَّة: هي واجبة حتَّى لا يكفر جاحدها، وهو الفرق بين الفرض والواجب. وقد ذكر أنَّ بعضهم ذهبوا إلى أنَّها سنَّة وقالوا: معنى فرض قدر، وقد مرَّ الكلام فيه آنفاً.
          (زَكَاةَ الْفِطْرِ) من صوم رمضان؛ أي: أوجبها وما أوجبه رسول الله صلعم فَبِأَمْر الله، وما ينطق عن الهوى، ووقت وجوبها عندنا وقت طلوع الفجر يوم العيد؛ لأنَّ اللَّيل ليس محلاً للصَّوم، وإنَّما يتبيَّن الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، وهو قول الشَّافعي في القديم، وإحدى الرِّوايتين عن مالك، وبه قال اللَّيث أيضاً.
          ويقويِّه قوله في حديث الباب: وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج النَّاس إلى الصَّلاة، وقال الشَّافعي في الجديد: وقت وجوبها وقت غروب الشَّمس ليلة العيد لكونه أضافها إلى الفطر، وذلك وقت الفطر، وهو قول أحمد بن حنبل وإحدى الرِّوايتين عن مالك، وبه قال الثَّوري أيضاً.
          قال المازري: قيل: إنَّ الخلاف يبتنى على أنَّ قوله: الفطر يراد به الفطر المعتاد في سائر الشَّهر، فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطَّارئ بعد فيكون بطلوع الفجر.
          وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف؛ لأنَّ الإضافة إلى الفطر لا تدلُّ على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزَّكاة إلى الفطر من رمضان، وأمَّا وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر. وسيأتي ما ينبئ عن ذلك في باب الصَّدقة على العبد [خ¦1504].
          (صَاعاً مِنْ تَمْرٍ / أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ) ظاهره أنَّه يخرج من أيهما شاء صاعاً، ولا يجزئ من غيرهما وهو مذهب داود ومن تبعه، وبذلك قال ابن حزم، فلا يجزئ عندهم قمح ولا دقيقه ولا دقيق شعير ولا سويق ولا خبز ولا زبيب ولا غيرها، لكن ورد في روايات أُخَر ذِكْرُ أجناسٍ أُخَر تأتي إن شاء الله تعالى.
          ولم تختلف الطُّرق عن ابن عمر ☻ في الاقتصار على هذين الشَّيئين إلا ما أخرجه أبو داود والنَّسائي وغيرهما من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع فزاد فيه: ((السُّلت والزَّبيب))، فأمَّا السُّلْت فهو بضم المهملة وسكون اللام بعدها مثناة: نوع من الشَّعير، وأمَّا الزَّبيب فسيأتي ذِكْره.
          ثمَّ قوله: صاعاً نصب على التمييز أو على أنَّه مفعول ثان، والصَّاع عند أبي حنيفة ومحمَّد ► ثمانية أرطال بالبغدادي وهو مائة وثلاثون درهماً، فيكون الصَّاع عندهما ألفاً وأربعين درهماً، وكان أبو يوسف يقول كقولهما، ثمَّ رجع إلى قول مالك والشَّافعي وأحمد وعلماء الحجاز، وهو عندهم خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي أيضاً، وهو مائة وثلاثون درهماً على الأصح عند الرَّافعي أيضاً ومائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم على الأصح عند النَّووي.
          فالصَّاع على الأوَّل عندهم ستمائة درهم، وثلاثة وتسعون درهماً وثلث درهم، وعلى الثاني ستمائة درهم وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم والأصل الكيل، وإنَّما قدر بالوزن استظهاراً.
          قال في «الرَّوضة»: قد يستشكل ضبط الصَّاع بالأرطال، فإنَّ الصَّاع المخرج به في زمن النَّبي صلعم مكيال معروف، ويختلف قدره وزناً باختلاف جنس ما يخرج كالذرة والحمص وغيرهما، والصَّواب ما قاله الدارمي: أنَّ الاعتماد على الكيل بالصَّاع الذي كان يخرج به في عصر النَّبي صلعم ، ومن لم يجده لزمه قدر يتيقَّن أنَّه لا ينقص عنه، وعلى هذا فالتَّقدير بخمسة أرطال وثلث، وكذا بثمانية أرطال تقريب.
          وقال جماعة من العلماء: الصَّاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين، حكاه النَّووي في «الرَّوضة».
          (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ) ظاهره أنَّ العبد يخرج عن نفسه، وهو قول داود الظَّاهري منفرداً به، وقال: إنَّ السَّيد يجب عليه أن يمكنه من كسبها كما يمكنه من صلاة الفرض، ومذهب الجماعة وجوبها على السَّيد حتَّى ولو كان للتِّجارة، وهو مذهب مالك واللَّيث والأوزاعي والشَّافعي وإسحاق وابن المنذر.
          وقال عطاء والنَّخعي والثَّوري والحنفيُّون: إذا كان للتِّجارة لا يلزمه فطرته، ودليل من أوجبها على السَّيد قوله صلعم : ((ليس على المسلم في عبده صدقة إلَّا صدقة الفطر)) وذلك يقتضي أنَّها ليست عليه، بل على سيده.
          وقال القاضي البيضاوي: جعل وجوب زكاة الفطر على السيِّد كوجوبها على العبد مجازاً، إذ ليس هو أهلاً لِأَنْ يكلَّف بالواجبات الماليَّة، ويؤيِّد ذلك عطف الصَّغير عليه.
          وقال الحافظ العسقلاني: وهل تجب عليه ابتداءً أو تجب على العبد، ثمَّ يتحمَّلها السيد؟ وجهان للشَّافعية: وإلى الثَّاني نحا البخاري، كما سيأتي في التَّرجمة الآتية.
          وأمَّا المكاتب: فالجمهور أنَّها لا تجب عليه، وعن مالك قولان قيل: يخرجها عن نفسه، وقيل: سيده، ولا تجب على السَّيد عند أبي حنيفة والشَّافعي / وأحمد، وقال ميمون بن مهران وعطاء وأبو ثور: يؤدِّي عنه سيِّده.
          واستُدِلَّ لمن قال: لا تجب على السيِّد بما رواه البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر ☻ : «أنَّه كان يؤدِّي زكاة الفطر عن كلِّ مملوك له في أرضه وأرض غيره، وعن كل إنسان يعوله من صغير وكبير، وعن رقيق امرأته، وكان له مكاتب بالمدينة فكان لا يؤدِّي عنه».
          قال البيهقي: وفي رواية الثَّوري عن موسى: «كان لابن عمر مكاتبان فلا يعطي عنهما الزَّكاة يوم الفطر». ورواه ابن أبي شيبة عن حفص عن الضَّحاك بن عثمان عن نافع.
          (وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى) ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أو لا، وبه قال الثَّوري وأبو حنيفة وابن المنذر، وقال مالك والشَّافعي واللَّيث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها مستدلِّين بقول ابن عمر ☻ : «أمر رسول الله صلعم بصدقة الفطر عن الصَّغير والكبير ممَّن تمونون»، وقال البيهقي: إسناده غير قويِّ، وإلحاقاً بالنَّفقة، وفيه نظر؛ لأنَّهم قالوا: إن أعسر وكانت الزَّوجة أمة وجبت فطرتها على السَّيد بخلاف النَّفقة فافترقا، واتَّفقوا على أنَّ المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أنَّ نفقتها تلزمه. واعلم أنَّها تجب على الخنثى أيضاً.
          (وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) ظاهره يدلُّ على وجوبها على الصَّغير، وإن كان يتيماً لكن المخاطب عنه وليِّه فوجوبها على هذا في مال الصَّغير، وإلَّا فعلى من تلزمه نفقته، وهذا قول الجمهور.
          وقال ابن بزيزة: وقال محمَّد بن الحسن وزفر: لا تجب على اليتيم زكاة الفطر كان له مال أو لم يكن، فإن أخرجها عنه وصيِّه ضمن قال: وأصل مذهب مالك وجوب الزَّكاة على اليتيم مطلقاً.
          وذكر صاحب «الهداية»: يخرج عن أولاده الصِّغار، فإن كان لهم مال أدَّى من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمَّد. انتهى.
          وعن محمَّد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه. وقال ابن بزيزة: قال الحسن: هي على الأب، فإن أعطاها من مال الابن ضمن. وعن سعيد بن المسيَّب والحسن البصري: لا تجب إلَّا على من صام، واستدلَّ لهما بحديث ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً: ((صدقة الفطر طهرة للصَّائم من اللَّغو والرَّفث)) أخرجه أبو داود.
          وأجيب: بأنَّ ذكر التَّطهير خرج مخرج الغالب كما أنَّها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصَّلاح أو من أسلم قبل غروب الشَّمس بلحظة. وهل يجب / إخراجها عن الجنين أو لا، نقل ابن المنذر الإجماع على أنَّها لا تجب على الجنين قال: وكان أحمد يستحبُّه ولا يوجبه، ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حزم، لكن قيَّده بمائة وعشرين يوماً من يوم حمل أمِّه به قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر، كأنَّه اعتمد على حديث ابن مسعود ☺: ((إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمِّه أربعين صباحاً)) الحديث.
          وتُعُقِّب بأنَّ الحمل غير متحقِّق، وبأنَّه لا يسمَّى صغيراً لا لغة ولا عرفاً.
          قال ابن بزيزة: ومن شواذ الأقوال أنَّها تخرج عن الجنين روينا ذلك عن عثمان بن عفَّان ☺ وسليمان بن يسار.
          وفي «المصنَّف»: حدَّثنا عبد الوهاب الثَّقفي، عن أيُّوب، عن أبي قلابة قال: كانوا يعطون حتَّى عن الحمل. ثمَّ إنَّه استدلَّ بقوله في حديث ابن عبَّاس ☻ : «طهرة للصَّائم»، على أنَّها تجب على الفقير كما تجب على الغني، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة ☺ عند أحمد، وفي حديث ثعلبة عند الدَّارقطني.
          وقالت الحنفيَّة: لا تجب إلَّا على من ملك نصاباً، ومقتضاه أنَّها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير، واستدلُّوا بحديث أبي هريرة ☺ المتقدِّم: ((لا صدقة إلَّا عن ظهر غنى)).
          واشترط الشَّافعي ومن تبعه أن يكون ذلك فاضلاً عن قوت يومه ومن يلزمه نفقته، وقال ابن بزيزة: لم يدلَّ دليل على اعتبار النِّصاب فيها؛ لأنَّها زكاة بدنيَّة لا ماليَّة.
          (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال ابن عبد البر: لم يختلف الرُّواة عن مالك في هذه الزِّيادة إلا أنَّ قتيبة بن سعيد رواه عن مالك بدونها. وأطلق أبو قلابة الرَّقاشي ومحمَّد بن وضَّاح وابن الصَّلاح ومن تبعهم: أنَّ مالكاً تفرَّد بها دون أصحاب نافع، وهو مُتَعَقَّبٌ برواية عمر بن نافع المذكورة في هذا الحديث.
          وكذلك أخرجه مسلم من طريق الضَّحاك بن عثمان، عن نافع بهذه الزِّيادة ولفظه: فرض رسول الله صلعم : ((زكاة الفطر من رمضان على كلِّ نفس من المسلمين)) الحديث.
          وقال أبو عوانة في «صحيحه»: لم يقل فيه: «من المسلمين» غير مالك والضَّحاك، ورواية عمر بن نافع تَرُدُّ عليه أيضاً. وقال أبو داود بعد أن أخرجه من طريق مالك وعمر بن نافع: / رواه عبد الله العمري عن نافع فقال: «على كل مسلم». ورواه سعيد بن عبد الرَّحمن الجمحي عن عبيد الله بن نافع فقال فيه: «من المسلمين»، والمشهور عن عبيد الله ليس فيه من المسلمين.
          وقد أخرج الحاكم في «المستدرك» طريق سعيد بن عبد الرَّحمن المذكورة. وأخرج الدَّارقطني وابن الجارود طريق عبد الله العمري، قال التِّرمذي في «الجامع» بعد رواية مالك: رواه غير واحد عن نافع ولم يذكر فيه: من المسلمين.
          وقال في «العلل» التي في آخر الجامع: روى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع ولم يذكروا فيه: من المسلمين. وروى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممَّن لا يعتمد على حفظه. انتهى.
          قال الحافظ العسقلاني: وهذه العبارة أولى من عبارته الأولى، ولكن لا ندري من عني بذلك. وقال النَّووي في «شرح مسلم»: رواه ثقتان غير مالك: عمر بن نافع والضَّحاك. انتهى.
          وقد روى هذه الزِّيادة جماعة غيرهما ممَّن يعتمد على حفظهم منهم: كثير بن فرقد، رواه الحاكم عنه، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلعم فرض زكاة الفطر الحديث وفيه: ((من المسلمين)).
          ومنهم المعلى بن إسماعيل، رواه ابن حبَّان في «صحيحه» عنه عن نافع، عن ابن عمر ☻ قال: ((أمر رسول الله صلعم بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير عن كل مسلم)) الحديث.
          ومنهم عبد الله بن عمر العمري، رواه الحاكم في «مستدركه» عنه عن نافع، عن ابن عمر ☻ : «أنَّ رسول الله صلعم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من بر على كلِّ حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين» وصحَّحه.
          ومنهم أخوه عبيد الله بن عمر العمري، أخرجه الدَّارقطني عنه عن ابن عمر نحوه. ومنهم أيُّوب السَّختياني، رواه الدَّارقطني، ولكن اختلف عنهما في زيادتها.
          ومنهم يونس بن يزيد، رواه الطَّحاوي في «مشكله» عنه أنَّ نافعاً أخبره قال: قال عبد الله بن عمر ☻ : «فرض رسول الله صلعم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كلِّ إنسان ذَكَرٍ أو أنثى حُرٍّ أو عَبْدٍ من المسلمين». ومنهم ابن أبي ليلى، أخرجه الدَّارقطني عنه.
          وبهذه الزِّيادة احتجَّ مالك والشَّافعي وأحمد وأبو ثور على أنَّه لا تجب / صدقة الفطر على أحد عن عبده الكافر، وهو قول سعيد بن المسيَّب والحسن.
          وقال الثَّوري وأبو حنيفة وأصحابه: عليه أن يؤدِّي صدقة الفطر عن عبده الكافر، وكذا عن قريبه الكافر، وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والنَّخعي، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر ♥ .
          نعم لا تجب على الكافر عن نفسه وهو متَّفق عليه، وأمَّا عن غيره من عبده وقريبه المسلمين فللشافعية فيه وجهان مبنيان على أنَّها تجب على المؤدِّي ابتداء أو على المؤدَّى عنه، ثمَّ يتحمَّل المؤدي، والأصح الوجوب؛ بناء على الأصح، وهو وجوبها على المؤدَّى عنه، ثمَّ يتحمل المؤدي، وهو المحكي عن أحمد.
          واحتجَّ من أوجبها على المسلم عن عبده الكافر بما رواه الدَّارقطني من حديث عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((أدُّوا صدقة الفطر عن كلِّ صغير وكبير ذكر أو أنثى يهودي أو نصراني حر أو مملوك نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أو شعير)).
          فإن قلت: قال الدَّارقطني: لم يسند هذا الحديث غير سلام الطَّويل وهو متروك، ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات» وقال: زيادة اليهودي والنصراني فيه موضوعة، انفرد بها سلام الطَّويل، وكأنَّه تعمَّدها.
          هذا فالجواب أنَّه قال العيني: جازف ابن الجوزي في مقالته من غير دليل، وقد أخرج الطَّحاوي في «مشكله» ما يؤيِّده عن ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة ☺ قال: «كان يخرج صدقة الفطر عن كلِّ إنسان يعوله من صغير وكبير حرٍّ أو عبد ولو كان نصرانيًّا».
          وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيَّما رواية ابن المبارك عنه ولم يتركه أحد، ويؤيِّده أيضاً ما رواه الدَّارقطني عن عثمان بن عبد الرَّحمن، عن نافع، عن ابن عمر ☻ «أنَّه كان يخرج صدقة الفطر عن كلِّ حر وعبد صغير وكبير ذكر وأنثى كافر ومسلم». الحديث.
          قال الدَّارقطني: عثمان هذا هو الوقاصي، وهو متروك.
          وأخرج عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه» عن ابن عبَّاس ☻ قال: «يخرج الرَّجل زكاة الفطر عن كلِّ مملوك وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا».
          وأخرج ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» عن إسماعيل بن عيَّاش، عن عمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز قال: سمعته يقول: يؤدِّي الرَّجل المسلم عن مملوكه النَّصراني صدقة الفطر وقال: حدَّثنا عبد الله بن داود، عن الأوزاعي قال: بلغني عن ابن عمر ☻ أنَّه كان يعطي عن مملوكه النَّصراني صدقة الفطر، / وروي عن إبراهيم مثله. واستدلُّوا أيضاً بعموم قوله صلعم : ((ليس على المسلم في عبده صدقة إلَّا صدقة الفطر)).
          وأجيب: بأنَّ الخاص يقضي على العام فعموم قوله: في عبده مخصوص بقوله: من المسلمين.
          وقال الطَّحاوي: قوله: من المسلمين، صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم، لكن ظاهر الحديث يأباه؛ لأنَّ فيه العبد والصَّغير، وهما من المخرج عنهم لا من المخرجين، فدلَّ على أنَّ صفة الإسلام لا تختصُّ بالمخرجين.
          ويؤيِّده رواية الضَّحاك عند مسلم بلفظ: ((على كلِّ نفس من المسلمين حرٍّ أو عبدٍ)) الحديث.
          وقال القرطبي: ظاهر الحديث أنَّه قصد بيان مقدار الصَّدقة ومن يجب عليه، ولم يقصد فيه بيان من يخرجها عن نفسه ممَّن يخرجها عن غيره، بل يشمل الجميع.
          ويؤيِّده حديث أبي سعيد الآتي فإنَّه دالٌّ على أنَّهم كانوا يخرجون عن أنفسهم وعن غيرهم لقوله فيه: على كلِّ صغير وكبير، لكن لا بدَّ من أن يكون بين المخرج وبين الغير ملابسة كما بين الصَّغير ووليه، والعبد وسيِّده، والمرأة وزوجها.
          وقال الطِّيبي: قوله: من المسلمين حال من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة على ما يقتضيه علم البيان أنَّ المذكورات جاءت مزدوجة على التَّضاد للاستيعاب لا للتَّخصيص لئلا يلزم التَّداخل، فيكون المعنى فرض رسول الله صلعم على جميع النَّاس من المسلمين، أما كونها فيم وجبتْ وعلى مَن وجبتْ، فيعلم من نصوصٍ أخرى. انتهى.
          وقال ابن بَزِيزة: إنَّ قوله: من المسلمين، زيادة مضطربة من غير شكٍّ من جهة الإسناد والمعنى؛ لأنَّ ابن عمر ☻ راويه كان من مذهبه إخراج الزَّكاة عن العبد الكافر، والرَّاوي إذا خالف ما رواه كان تضعيفاً لروايته.
          ولنا جواب آخر: وهو أنَّ صدقة الفطر فيها نصَّان أحدهما: جعل الرَّأس المطلق سبباً وهي الرِّواية التي ليس فيها قوله: من المسلمين.
          والآخر: جعل الرَّأس المسلم سبباً، ولا تنافي بين الأسباب على ما عُرِفَ في موضعه، كالملك يثبت بالشِّراء والهبة والوصيَّة والصَّدقة والإرث، فإذا امتنعت المزاحمة وجب الجمع بإجراء كل واحد من المطلق والمقيَّد على سننه، من غير حمل أحدهما على الآخر، فيجب أداء صدقة الفطر عن العبد الكافر بالنَّص المطلق، / وعن المسلم بالمقيَّد.
          فإن قيل: إذا لم يحمل المطلق على المقيدِّ أدَّى إلى إلغاء المقيَّد، فإنَّ حكمه يفهم من المطلق ألا ترى أنَّ حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد فلم يبق لذكر المقيَّد فائدة؟
          فالجواب: أنَّ الأمر ليس كذلك، بل فيه فوائد وهي أن يكون المقيَّد دليلاً على الاستحباب والفضل، وعلى أنَّه عزيمة، والمطلق رخصة، أو على أنَّه أهم وأشرف حيث نصَّ عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق كتخصيص الصَّلاة الوسطى وجبريل وميكائيل، بعد ذكر الصَّلوات والملائكة، ومتى أمكن العمل بهما مع احتمال الفائدة لا يجوز إبطال صفة الإطلاق.
          (وَأَمَرَ بِهَا) أي: بصدقة الفطر (أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ) وهذا أمر استحباب، وهو قول ابن عمر وابن عبَّاس ♥ ، وكذا قول عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النَّخعي، والقاسم، وأبي نضرة، وعكرمة، والضَّحاك، والحكم بن عتيبة، وموسى بن وردان، ومالك، والشَّافعي، وإسحاق، وأهل الكوفة، ولم يحك فيه خلاف، وحكى الخطَّابي الإجماع فيه.
          وقال ابن حزم: الأمر فيه للوجوب، فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت. والحديث أخرجه أبو داود والنَّسائي والتِّرمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.