نجاح القاري لصحيح البخاري

باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه

          ░7▒ (باب: يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: إِنَّهُ أَخُوهُ، إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ) بأن يقتله الظَّالم إن لم يحلف اليمين الَّتي أكرهه الظَّالم عليها (أَوْ نَحْوَهُ) كقطع اليدِ، أو قطع عضوٍ من أعضائه؛ أي: لا حنثَ عليه كما قاله ابن بطَّال عن مالكٍ والجمهور، ولفظه ذهب مالكٌ والجمهور إلى أنَّ مَن أُكره على يمين إن لم يحلفها قُتلَ أخوه المسلم لا حنثَ عليه.
          وقال الكوفيُّون: يحنث لأنَّه كان له أن يورّي فلمَّا ترك التَّورية صار قاصداً لليمين فيحنث. وأجابَ الجمهور: بأنَّه إذا أُكْره على اليمين، فنيَّته مخالفة لقوله: ((الأعمال بالنِّيات)).
          (وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ) بفتح الرّاء (يَخَافُ، فَإِنَّهُ) أي: المسلم (يَذُبُّ) بفتح التّحتيّة وضم الذّال المعجمة؛ أي: يدفع (عَنْهُ الْمَظَالِمَ) جمع مظلمة، / ويروى: <الظَّالم> أي: يدفعه ويمنعه، ويروى: <ويدرأ عنه المظالم> (وَيُقَاتِلُ دُونَهُ) أي: عنده أو عنه (وَلاَ يَخْذُلُهُ) بالذال المعجمة المضمومة؛ أي: لا يترك نصرته (فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ) أي: عنه غير قاصدٍ قتل الظَّالم بل الدَّفع عن المظلوم فأبى الظَّالم (فَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ وَلاَ قِصَاصَ) قال الدَّاودّي: أراد لا قودَ ولا ديةَ، قال: والدِّية تسمَّى أرشاً.
          وقال الكرمانيُّ: لم كرَّر القود إذ هو القصاصُ بعينه؟ ثمَّ أجاب بأنَّه لا تكرارَ؛ إذ القصاص أعمُّ من أن يكون في النَّفس، ويستعملُ غالباً في القودِ وهو تأكيدٌ.
          وقال الحافظُ العَسقلانيّ: والأولى أنَّ قوله: ولا قصاصَ تأكيدٌ، وأطلقَ القود على الدِّية، قال ابن بطَّال: اختلفوا فيمن قاتلَ عن رجلٍ خشي عليه أن يُقتلَ فقتل دونه هل يجبُ على الآخرِ قصاص أو دية؟ فقالت طائفةٌ: لا يجبُ عليه شيءٌ للحديث المذكور، ففيه: ((ولا يسلمه)) [خ¦6951]، وفي الحديث الَّذي بعده: ((انصر أخاك)) [خ¦6952]، وبذلك قال عمر ☺، وقالت طائفةٌ: عليه القود، وهو قول الكوفيِّين، وهو يشبه قولَ ابن القاسم وطائفة.
          وأجابوا عن الحديث: بأنَّ فيه النَّدب إلى النُّصرة، وليس فيه الإذن بالقتل، والمتَّجه قول ابن بطَّال أنَّ القادر على تخليصِ المظلوم توجَّه عليه دفع الظُّلم بكلِّ ما يمكنه، فإذا دفعَ عنه لا يقصد قتل الظَّالم وإنَّما يقصد دفعه، فلو أبى الدَّفع على الظَّالم كان دمه هدراً، وحينئذٍ لا فرق بين الدَّفع عن نفسه أو عن غيره.
          (وَإِنْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ) وأكرهه على ذلك (أَوْ) قال: (لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ) وأكرهه على أكلها (أَوْ) قال (لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ) وأكرهه على بيعه (أَوْ) قال: (تُقِرُّ بِدَيْنٍ) لفلانٍ على نفسك ليس عليك (أَوْ تَهَبُ هِبَةً) لغير طيب نفس منك (أو تَحُلُّ) بفتح الفوقيّة وضمِّ الحاء المهملة، فعل مضارع (عُقْدَةً) بضم العين المهملة وسكون القاف آخره تاء تأنيث بفتحها، كالطَّلاق والعتاق، وفي بعض النُّسخ: <وكلُّ عقدة> بالكاف بدل الحاء، مبتدأ مضاف لعقدة وخبرهُ محذوف؛ أي: كذلك.
          (أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ، أَوْ أَخَاكَ فِي الإِسْلاَمِ) إنَّما قيَّده بالإسلام ليجعله أعم من الأخ في النَّسب، وزاد أبو ذرٍّ عن الكُشميهنيّ: <وما أشبه ذلك>، / مثل أن يقول: لتقرضنَّ أو لتؤجرن ونحوها (وَسِعَهُ) بكسر السّين المهملة (ذَلِكَ) أي: جاز له جميع ذلك لتخليص أبيه وأخيه المسلم؛ يعني: المؤمن عن القتل.
          وقال ابن بطَّال ما ملخَّصه: مراد البخاريّ أنَّ من هُدِّد بقتل والده أو بقتل أخيه في الإسلام إن لم يفعل شيئاً من المعاصي أو يقرُّ على نفسه بدينٍ ليس عليه، أو يهب شيئاً لغيره بغير طيب نفسه، أو يحلُّ عقداً كالطَّلاق والعتاق بغير اختياره أنَّه يفعل جميع ما هُدِّد به لينجو أبوه من القتل، وكذا أخوه المسلم ودليله على ذلك ما ذكره في الباب الَّذي بعده موصولاً ومعلَّقاً [خ¦6953].
          ونبَّه ابن التِّين على توهُّم وقع للدَّاودي الشَّارح، حاصله أنَّ الرَّاوي وهم في إيراد كلام البخاريّ فجعل قوله: ((لتقتلنَّ)) بالتاء، وجعل قول البخاري وسعه ذلك، أو لم يسعه ذلك، ثمَّ تعقَّبه بأنَّه إن أراد لا يسعه في قتل أبيهِ، أو أخيه فصوابٌ، وأمَّا الإقرار بالدَّين والهبة والبيع فلا يلزمُ، واختلف في الشُّرب والأكل. قال ابن التِّين: قرأ: ((لتقتلن)) بالتاء، وإنما هو بالنون.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم ) السَّابق ذكره في ((بابِ المظالم)) [خ¦2442] (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) لا يظلمه ولا يسلمه، هو دليل قوله: ((وأخاكَ في الإسلام)) (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) قيل: هم الحنفيَّة (لَوْ قِيلَ لَهُ) أي: لو قال ظالمٌ لرجلٍ (لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ، أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ) بفتح الميم وسكون الحاء، أو بضم الميم والتشديد، وهو من لا يحلُّ نكاحها أبداً لحرمتهِ؛ أي: إن لم تفعل كذا (لَمْ يَسَعْهُ) أي: لم يجز له أن يفعلَ ما أمره به (لأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ) قال ابن بطَّال: معناه: أنَّ ظالماً لو أرادَ قتل رجلٍ فقال لولد الرَّجل مثلاً: إن لم تشربِ الخمر، أو تأكل الميتة قتلتَ أباك، وكذا لو قال له: قتلتُ ابنك، أو ذا رحمٍ لك، ففعل لم يأثم عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يأثم لأنَّه ليس بمضطرٍّ؛ لأنَّ الإكراه إنَّما يكون فيما يتوجَّه إلى الإنسان في خاصة نفسه لا في غيره، وليس له أن يعصيَ الله حتَّى يدفع عن غيره، بل الله سائل الظَّالم ولا يؤاخذ الابن؛ لأنَّه لم يقدر على الدَّفع / إلَّا بارتكاب ما لا يحلُّ له ارتكابه، فليصبر على قتل ابنه، فإنَّه لا إثمَ عليه، فإن فعل يأثم.
          (ثُمَّ نَاقَضَ) أي: بعض النَّاس، قوله هذا (فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ) أي: إن قال ظالمٌ لرجلٍ (لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوِ ابْنَكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <أو لتقرن> (بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ) هبةً (يَلْزَمُهُ فِي الْقِيَاسِ) لما سبق أنَّه يصبر على قتل أبيه، وعلى هذا يلزمه كلُّ ما عقد على نفسه من عقد ثمَّ ناقض هذا المعنى بقوله:
          (وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ، وَكُلُّ عُقْدَةٍ) بضم العين (فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ) فخالف قياس قوله الاستحسان الَّذي ذكره؛ أي: استحسن بطلان البيع ونحوه بعد أن قال يلزمه في القياس فلذلك قال البخاريّ بعده: (فَرَّقُوا) أي: الحنفيَّة (بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَغَيْرِهِ) من الأجنبي (بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ) يعني: أنَّ مذهب الحنفيَّة في ذي الرَّحم بخلاف مذهبهم في الأجنبيّ فلو قيل لرجلٍ: لتقتلنَّ هذا الرَّجل الأجنبيّ، أو لتبيعنَّ كذا ففعل لينجيه من القتل يلزمه البيع، ولو قيل له ذلك في ذي رحمه لم يلزمه ما عقده استحساناً.
          والحاصل: أنَّ أصل أبي حنيفة اللزوم في الجميع قياساً، لكن يستثنى من له منه رحمٌ استحساناً، ورأى البخاريُّ أن لا فرقَ بين القريب والأجنبيِّ في ذلك لحديث مسلمٍ: ((المسلم أخو المسلم)) وأنَّ المراد به أخوّة الإسلام لا النَّسب، ولذلك استشهد بقوله:
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : قَالَ إِبْرَاهِيمُ) صلعم (لاِمْرَأَتِهِ) لما طلبها الجبَّار، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <لسارة> (هَذِهِ أُخْتِي) والمراد أخوة الإسلام، وإلَّا فنكاح الأخت كان حراماً في ملَّة إبراهيم ╕، وهذه الأخوةُ توجب حماية أخيه المسلم، والدَّفع عنه فلا يلزمه ما عقده ولا إثم عليه، فيما أكله وشربه للدَّفع عنه فهو كما قيل له: لتفعلنَّ كذا، أو لنقتلنَّك فإنَّه يسعه إتيانها ولا يلزمه الحكم ولا يقعُ عليه الإثم (وَذَلِكَ فِي اللَّهِ) من كلام البخاريّ؛ يعني قوله: هذه أختي لإرادة التَّخليص فيما بينه وبين الله تعالى. /
          وقال العينيُّ: بيان التَّناقض على زعمه أنَّهم قالوا بعدم الإكراه في الصُّورة الأولى، وقالوا به في الصُّورة الثَّانية من حيث القياس، ثمَّ قالوا: ببطلان البيع ونحوه استحساناً، فقد ناقضوا أن يلزم القول بالإكراه وقد قالوا بعدم الإكراه.
          قلت: هذه المناقضة ممنوعة؛ لأنَّ المجتهد يجوز له أن يخالف قياس قوله بالاستحسان، والاستحسان حجَّة عند الحنفيَّة، وكذا الفرق بين كلِّ ذي رحمٍ وغيره بطريق الاستحسان وهو غير خارجٍ عن الكتاب والسُّنة، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18]، وأمَّا السُّنة فقوله صلعم : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ)).
          وقال الكرماني: يحتمل أن يكون البحث المذكور بأن يقال: إنَّه ليس بمضطرٍّ؛ لأنَّه مخيَّر في أمور متعدِّدة، والتَّخيير ينافي الإكراه، فكما لا إكراه في الصُّورة الأولى وهي الأكل والشُّرب والقتل كذلك لا إكراه في الصُّورة الثَّانية وهو البيع والهبة والقتل، ولقائلٍ أن يقول: لم يقولوا بعدم الإكراه أصلاً، وإنما أثبتوه بطريق القياس في الجميع لكنَّهم استحسنوا في أمر المحرم لمعنى قام به، وقوله في أوَّل التَّقرير: في أمور متعدِّدة ليس كذلك، بل الَّذي يظهر أنَّ ((أو)) فيه للتَّنويع لا للتَّخيير، وأنَّها أمثلةٌ لا مثال واحد.
          ثمَّ قال الكرمانيُّ: وقوله: أي: البخاريّ إنَّ تفريقهم بين المحرم وغيره شيءٌ قالوه لا يدلُّ عليه كتابٌ ولا سُنَّة؛ أي: ليس فيهما ما يدلُّ على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهو أيضاً كلامٌ استحسانيّ، قال: وأمثال هذه المباحث غير مناسبةٍ لوضع هذا الكتاب إذ هو خارجٌ عمَّا فيه.
          وقال الحافظ العَسقلانيّ: هو عجيبٌ منه، فإنّ كتاب البخاري كما تقدَّم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلاً صرفاً، بل ظاهر وضعه أنَّه يجعل كتاباً جامعاً للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيراً الاختلاف العالي، ويرجح أحياناً ويسكت أحياناً توقُّفاً عن الجزم بالحكم، ويورد كثيراً من التَّفاسير، ويشير فيه إلى كثيرٍ من العلل وترجيح بعض الطُّرق على بعضٍ، فإذا أورد شيئاً من المباحث لم يستغرب. /
          وأمَّا رمزه إلى أنَّ طريقة البحث ليست من فنِّه، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فللبخاريّ أسوة بالأئمَّة الَّذين سلك طريقهم، كالشَّافعيّ وأبي ثورٍ والحميديّ وأحمد وإسحاق، فهذه طريقتهم في البحث وهي محصلةٌ للمقصود، وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين.
          وقال العينيُّ: لم يسلك أحدٌ منهم فيما جمعه من الحديث خاصَّة هذا المسلك، وإنَّما ذكروا مثل هذه المباحث في مؤلفات مشتملةٍ على الأصول والفروع وإن ذكر أحدٌ منهم هذه المباحث في كتاب الحديث خاصَّة فالكلام عليه أيضاً واردٌ على أنَّ أحداً لا ينازع أنَّ البخاريّ لا يقام الشَّافعي في الفقه، ولا في البحث عن مثل هذه المباحث. انتهى فتأمَّل فيه.
          (وَقَالَ النَّخَعِيُّ) بفتح النون والخاء المعجمة، إبراهيم (إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِماً، فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُوماً فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ) قال الكرماني: فإن قلت: كيف يكون المستحلف مظلوماً؟ قلت: المدَّعي المحقُّ إذا لم يكن له بيِّنة ويستحلفُ المدعى عليه فهو مظلومٌ، وقال ابن بطَّال: ويتصوَّر كون المستحلف مظلوماً أن يكون له حقٌّ في قبل رجلٍ فيجحده ولا بيِّنة له فيستحلفه، فتكون النِّية نيَّته لا الحالف فلا تنفعه في ذلك التَّوراة فتأمَّل.
          وهذا الأثرُ وصله محمَّد بن الحسن في كتاب «الآثار» عن أبي حنيفة عن حمَّاد عنه: إذا استحلف الرَّجل وهو مظلومٌ، فاليمين على ما نوى وعلى ما ورّى، وإن كان ظالماً، فاليمين على نيَّة من استحلفه، ووصله ابنُ أبي شيبة بلفظ: إذا كان الحالف مظلوماً فله أن يورّي وإن كان ظالماً فليس له أن يورّي.
          وقال ابن بطَّال: قول النَّخعيّ يدلُّ على أنَّ النِّية عنده نيَّة المظلوم أبداً، وإلى مثله ذهبَ مالك والجمهور، وعند أبي حنيفة النِّيّة نيَّة الحالف أبداً، ومذهب الشَّافعيّ: أنَّ الحالف إن كان عند الحاكم فالنِّية نيَّة الحاكم وهي راجعةٌ إلى نيَّة صاحب الحقِّ، وإن كان في غير الحكم فالنِّية نيَّة الحالف.