إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب عفو المظلوم

          ░7▒ (باب عَفْوِ المَظْلُومِ) عمَّن ظلمه (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) في سورة النساء: ({إِن تُبْدُواْ خَيْرًا}) طاعةً وبِرًّا ({أَوْ تُخْفُوهُ}) أي: تفعلوه سرًّا ({أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ}) لكم المُؤاخَذة عليه، وهو المقصود، وذكر إبداء الخير وإخفائه تسبيبٌ(1) له، ولذلك رتَّب عليه قوله: ({فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149]) أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أَولى بذلك، وهو حثٌّ للمظلوم(2) على العفو بعدما رُخِّص له في الانتصار؛ حملًا على مكارم الأخلاق، وقوله تعالى في سورة {حم. عسق}: ({وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}) وسمَّى الثَّانية سيِّئةً للازدواج، ولأنَّها تسوء من تنزل به ({فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}) بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء ({فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}) عِدَةٌ مُبهَمةٌ لا يُقاس أمرها في العظم ({إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}) المبتدئين بالسَّيِّئة والمتجاوزين في الانتقام ({وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}) بعدما ظُلِم، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول ({فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}) من مأثمٍ ({إِنَّمَا السَّبِيلُ}) يعني: الإثم والحرج ({عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}) يبتدئونهم بالإضرار، يطلبون ما لا يستحقُّونه تجبُّرًا عليهم ({وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}) على ظلمهم وبغيهم ({وَلَمَن صَبَرَ}) على الأذى ولم يقتصَّ من صاحبه ({وَغَفَرَ})‼ تجاوز عنه وفوَّض أمره إلى الله ({إِنَّ ذَلِكَ}) الصَّبر والتَّجاوز ({لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:40-43]) أي: إنَّ ذلك منه، فحُذِف للعلم به، كما حُذِف في قولهم: السَّمن مَنَوان بدرهمٍ، ويُحكَى أنَّ رجلًا سبَّ رجلًا في مجلس الحسن ☼ ، فكان المسبوب يكظم ويعرق، فيمسح العرق، ثمَّ قال: فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عَقَلها والله وفهمها إذ ضيَّعها الجاهلون. وفي حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد وأبي داود أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لأبي بكرٍ: «ما من عبدٍ ظُلِم مظلمةً فعفا عنها إلَّا أعزَّ الله بها نصره»، وقد قالوا: العفو مندوبٌ إليه، ثمَّ قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كفِّ زيادة البغي وقطع مادَّة الأذى، وسقط من الفرع قوله تعالى: «{وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}»، أي: من ناصرٍ يتولَّاه، أي: من بعد خذلان الله له(3)، وثبت فيه قول الله(4) تعالى: ({وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}) حين يرونه، فذكره بلفظ الماضي تحقيقًا ({يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}[الشورى:44]) أي: إلى رجعةٍ إلى الدُّنيا، وفي رواية(5) أبي ذرٍّ: ”{فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ (6) لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(7) إلى قوله: {إِلَى (8) مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}“ فأسقط ما ثبت في رواية غيره.


[1] في (م): «تسبُّبٌ».
[2] في (ج) و(ص) و(ل): «وهو حثٌّ المظلوم»، وفي هوامشهم: وفي خطِّه: «حثٌّ -منوَّنة- المظلوم»، ولعلَّه: للمظلوم. انتهى. وفي «البيضاويِّ»: وهو حثُّ المظلومِ، أي: بالإضافة.
[3] في (د) و(د1) و(ص): «إيَّاه».
[4] في (د) و(س): «قوله».
[5] زيد في غير (د) و(س): «عن».
[6] في (ص): «إنَّ الله»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيِّة».
[7] في (ج) و(م): «يفلح الظَّالمون».
[8] «{ وَلِيٍّ }»: مثبتٌ من (د).