إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث معاوية: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

          7312- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أويس قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله (عَنْ يُونُسَ) بن يزيد الأيليِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (حُمَيْدٌ) بضمِّ الحاء المهملة وفتح الميم، ابن عبد الرَّحمن بن عوفٍ (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) ☻ حال كونه (يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا) أي: جميع الخيرات؛ لأنَّ النَّكرة تفيد العموم، أو خيرًا عظيمًا، فالتَّنوين للتَّعظيم (يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) والفقه في الأصل: الفهم، يقال: فَقِهَ الرَّجل _بالكسر_ يفقه فقهًا، إذا فَهِم وعلم، وفَقُهَ _بالضَّم_ يفقه، إذا صار فقيهًا عالمًا، وجعله العُرف خاصًّا(1) بعلم الشَّريعة وتخصيصًا بعلم الفروع، وإنَّما خُصَّ من علم الشَّريعة بالفقه؛ لأنَّه علمٌ مُستنبَطٌ بالقوانين والأدلَّة والأقيسة والنَّظر الدَّقيق، بخلاف علم اللُّغة والنَّحو والصَّرف، رُوِي أنَّ سلمان نزل على نَبَطيَّةٍ بالعراق، فقال لها: هل ههنا مكانٌ نظيفٌ أُصلِّي فيه؟ فقالت: طهِّر قلبك وصلِّ حيث شئت، فقال: فقهتِ، أي: فهمتِ، ولو قال: علمتِ، لم يقع هذا الموقع، وعن الدَّارمي عن عمران قال: قلت للحسن يومًا في شيءٍ قاله: يا أبا سعيدٍ، ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، هل رأيت فقيهًا قطُّ؟ إنَّما الفقيه الزَّاهد في الدُّنيا، الرَّاغب في الآخرة، البصير بأمور / دينه، المداوم على عبادة ربِّه (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ) قال القاضي عياضٌ: أي: إنَّما أقسم بينكم، فألقي إلى كلِّ واحدٍ ما يليق به (وَيُعْطِي اللهُ) كلَّ واحدٍ منكم من الفهم والتَّفكُّر والعمل ما أراده، وقال التُّوربشتيُّ: أَعلَمَ صلعم أنَّه(2) لم يُفَضِّل في قسمة ما أوحي إليه أحدًا من أمَّته على الآخر، بل سوَّى في البلاغ، وعدل في القسمة، وإنَّما التَّفاوت في الفهم، وهو واقعٌ من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصَّحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلَّا الظَّاهر الجليَّ، ويسمعه آخر منهم، أو من القرن الذي يليهم‼ أو ممَّن أتى بعده، فيستنبط منه كثيرًا، وقال الطِّيبيُّ: الواو في قوله: «وإنَّما أنا» للحال من فاعل «يفقِّهه» أو من مفعوله، وإذا كان الثَّاني فالمعنى: أنَّ الله يعطي كلًّا ممن أراد أن يُفقِّهه استعدادًا لِدَرْك المعاني على ما قدَّره، ثمَّ يُلهمني بإلقاء ما هو اللَّائق باستعداد كلِّ واحدٍ، وعليه كلام القاضي، وإذا كان الأوَّل فالمعنى أنِّي أُلقي ما يسنح لي، وأسوِّي فيه(3) ولا أُرجِّح واحدًا على واحدٍ، فالله تعالى يوفِّق كُلًّا منهم على ما أراد وشاء من العطاء، وعليه كلام التُّوربشتيِّ. انتهى. (وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا) على الدِّين الحقِّ (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة، أَوْ) قال: (حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ) تعالى، بالشَّكِّ من الرَّاوي، ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «ولن يزال أمر هذه الأمَّة مستقيمًا» لأنَّ من جملة الاستقامة أن يكون فيهم التَّفقُّه والمتفقِّه، ولا بدَّ منه لترتبط الأخبار المذكورة بعضها ببعضٍ، وتحصل جهةٌ جامعةٌ بينهما معنًى.
          والحديث سبق في «العلم» [خ¦71] وأخرجه مسلمٌ في «الزَّكاة» والله سبحانه وتعالى أعلم(4).


[1] في (ع): «خاصيًّا».
[2] «أنَّه»: سقط من (ص) و(ل).
[3] قوله: «فيه»: زيادة من شرح المشكاة.
[4] «والله سبحانه وتعالى»: مثبتٌ من (ب) و(س).