التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب بنيان المسجد

          قوله: (بَابُ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ): فائدة: اعلم أنَّ مسجد النَّبيِّ صلعم بناه ╕، كما في الحديث، وهو معروف، وذكر ابنُ العاقوليِّ شيخُنا الإمام غياث الدين شيخُ بغداد، وكذا قال زينُ الدين ابن حسين قاضي المدينة المشرَّفة في «تاريخه»، واللَّفظُ للثَّاني عن ابن النَّجَّار: (أنَّ رسول الله صلعم بنى مسجده مرَّتين؛ بناه حين قَدِم أقلَّ من مئة في مئة، فلمَّا فُتِحت خيبر؛ بناه، وزاد عليه في الدُّور مثله) انتهى، وقال ابن العاقوليِّ أيضًا: (عن ابن النَّجَّار: «أنَّه ╕ بنى مسجده مُربَّعًا، وجعل قِبْلَته إلى بيت المقدس، وطولُه سبعون ذراعًا في ستِّين ذراعًا(1)، أو يزيد، وجعل له ثلاثة أبواب؛ باب في مُؤخَّره، وباب عاتكة، وهو باب الرَّحمة، والباب الذي يدخل منه، وهو باب عثمان، ولمَّا صُرِفتِ القبلة إلى الكعبة؛ سَدَّ النَّبيُّ صلعم الباب الذي كان خلفه، وفتح بابًا حذاءه، وكان المسجد له ثلاثةُ أبواب؛ باب خَلْفَه، وباب عن يمين(2) المصلِّي، وباب عن يساره»، ولم يَبقَ من الأبواب التي كان رسول الله صلعم يدخل منها إلا بابُ عثمان المعروفُ بباب جبريل ◙) انتهى.
          فلمَّا استُخلِف أبو بكر ☺؛ لم يُحدِث فيه شيئًا، واستُخلِف عمر ☺ فوسَّعه، وكلَّم العبَّاسَ بن عبد المطَّلب في بيع داره؛ ليزيدها فيه، فوهبها العبَّاسُ لله وللمسلمين، فزادها عمر في المسجد، ثمَّ إنَّ عثمان بناه في خلافته بالحجارة والقَصَّة، وجعل عُمُدَه حجارة، وسَقَفَهُ بالسَّاج، وزاد فيه، ونقل إليه الحَصباء من العَقيق، وكان أوَّلَ مَنِ اتَّخذ فيه المقصورةَ مروانُ بن الحكم، بناها بحجارة منقوشة، وقال النَّوويُّ: (عن خارجة بن زيد أحدِ الفقهاء السبعة أنَّه قال: «بنى رسول الله صلعم مسجده سبعين ذراعًا في ستِّين ذراعًا، أو(3) يزيد»، قال أهل السِّير: جعل عثمانُ طولَ المسجد مئةً وستِّين ذراعًا، وعرضَه مئة وخمسين، وجعل أبوابه ستَّة...) إلى آخره، انتهى.
          ثمَّ لم يُحْدَث فيه شيءٌ إلى أن وُلِّي الوليدُ بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه، فكتب إلى عمر ابن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره(4) بهدم المسجد وبنائه، وبعث إليه بمال، وفُسَيْفِساء، ورخامٍ، وبثمانين صانعًا من الرُّوم والقِبْط من أهل الشَّام ومصر، فبناه وزاد فيه، وولَّى القيامَ بأمره والنَّفقةَ عليه صالحَ بن كيسان، وذلك في سنة سبعٍ وثمانين، ويقال: في سنة ثمان وثمانين(5)، ثمَّ لم يُحْدِث فيه أحدٌ من الخلفاء شيئًا حتَّى استُخلِف المهديُّ، قال الواقديُّ: (بعث المهديُّ عبدَ الملك ابن شبيب الغسَّانيَّ ورجلًا من ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة(6)؛ لبناء مسجدها والزيادة فيه، وعليها يومئذٍ جعفرُ بن سليمان بن عليٍّ، فمكثا في عمله سنة، وزادا في مُؤخَّره مئة ذراع، فصار طوله ثلاثَ مئةِ ذراع، وعرضُه مئتي ذراع)، قال السُّهيليُّ: (وذلك سنة ستِّين ومئة)، وقال عليُّ بن مُحَمَّد المدائنيُّ: (ولَّى المهديُّ جعفرَ بن سليمان مكَّة، والمدينة، واليمامة، فزاد في مسجد مكَّة ومسجد المدينة، فتمَّ بناء مسجد المدينة في سنة اثنتين وستِّين ومئة، وكان المهديُّ أتى المدينة قبل الحجِّ، فأمر بقلع المقصورة، وتسويتها مع المسجد)، ثمَّ إنَّ المأمون بن الرَّشيد زاد فيه زيادة، وذلك(7) في سنة ثنتين ومئتين، وأتقن بنيانه، ونقش فيه: (هذا ما أمر به عبد الله المأمون) في كلام كثير، ثمَّ لم يبلغنا أنَّ أحدًا غيَّر منه(8) شيئًا، ولا أحدثَ فيه عملًا، ورأيت في كلام شيخنا المؤلِّف بعد عثمان: (ثمَّ بناه عبد الله بن الزُّبير، ثمَّ الوليد بن عبد الملك) انتهى.
          و(الفُسَيْفساء): شيء يُطبَخ من الزُّجاج والأحجار، ذو بهجة وألوان، يدخل في فرش من الأرضِ والبنيانِ كالفُصوص، ومنه على هيئة الجامَات شَافٌّ(9).
          قوله: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ): تقدَّم مرارًا أنَّه سعد بن مالك بن سنان الخُدْرِيُّ ☺.
          قوله: (أَكِنَُّ النَّاسَ): رُوِي بفتح الهمزة، وكسر الكاف، والنُّون مُشدَّدة مضمومة، فعل مضارع، ورُوِي كذلك إلَّا أنَّ النُّون مفتوحة مع التشديد أيضًا، فعلُ أمرٍ، وهو ما في أصلنا، والثاني نسخة، ويجوز من حيث اللُّغةُ الثُّلاثيُّ والرُّباعيُّ، وبعض أهل اللُّغة فرَّق بين (كَنَنْته)، و(أَكْنَنْته)، فقال: كَنَنْتُ الشيءَ: سَتَرتُه وصُنْتُه من الشمس، وأَكْنَنْتُه في نفسي: أَسْرَرْتُه.
          قوله: (فَتَفْتِنَ النَّاسَ): رُوِي بفتح الفاء ثلاثيٌّ، ورباعيٌّ من (أَفْتَنَ)، وأنكر الأصمعيُّ الرُّباعيَّ، وأجازه أبو عبيد، واللُّغتان معروفتان نقلهما غيرُ واحد؛ منهم الجوهريُّ(10).
          قوله: (كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى): [أي: كما زيَّنتِ اليهود والنَّصارى](11)، وأصل الزُّخْرُفِ: الذَّهب.
          تنبيهٌ هو فائدةٌ: قال النَّوويُّ في «مناسكه الكبرى؛ الإيضاح» قبيل(12) الباب السَّادس منه: (إنَّ الوليد بن عبد الملك أوَّلُ مَن زخرف المساجد).


[1] (في ستين ذراعًا): سقط من (ب) ومن «الدرة الثمينة».
[2] في (ب): (يمينه).
[3] في (ب): «سبعين ذراعاً أو»، وفي (ج): «ستين ذراعاً و»، والمثبت موافق لمصدره. في (ج): (و).
[4] في (ج): (فأمره).
[5] (في سنة ثمان وثمانين): سقط من (ب).
[6] (إلى المدينة): سقط من (ب).
[7] في (ب): (ذلك).
[8] (أن): سقط من (ج)، (منه): سقط من (ب)، وفي (ج): «لم يبلغنا أحداً غير منه» وبإسقاط (أن).
[9] في (ج): (يشوف).
[10] (منهم الجوهري): سقط من (ب)، انظر «الصحاح» مادَّة (فتن).
[11] ما بين معقوفين سقط من (ب).
[12] في (ب) و(ج): (قبل).