التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب قول النبي: «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة»

          قوله: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ»): ذكر ابن المُنَيِّر ما في الباب على عادته، ثُمَّ قال: (ظنَّ الشارح _يعني: أبا الحسن عليَّ بن خلف بن بَطَّال المغربيَّ المالكيَّ_ أنَّ غرضَ البُخاريِّ إثباتُ جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك، وإنَّما غَرَضُه الإشارةُ إلى ما تَقَدَّمَ من وصف التلاوة بالحُسْن والتحسين، والرفعِ والخفضِ، ومقارنة الحالات البشريَّة؛ كقولها: «قرأ القرآن في حِجْري وأنا حائضٌ»، فهذا كلُّه يحقِّقُ أنَّ القراءةَ فعلُ القارئ، ومتَّصفةٌ بما تتَّصف الأفعالُ به، ومتعلِّقَة بالظروف المكانيَّة والزمانيَّة؛ أسوةَ الأفعالِ كلِّها)، انتهى.
          قوله: (مَعَ سَفَرَةِ الكِرَامِ(1))، وفي نسخة: (السَّفَرَةِ): قال القاضي عياض: (يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة: أنَّ له في الأجر منازلَ يكون فيها رفيقًا للملائكة السَّفَرة؛ لاتِّصافه بصفتهم من حمل كتاب الله، قال: ويحتمل أنَّه عامِلٌ بعملهم، وسالِكٌ مسلكهم).
          قوله: (مَعَ سَفَرةِ الكِرَامِ): (السَّفَرَة): جمعٌ، واحدهم: سافر؛ ككاتب وكَتَبَة، و(السَّافر): الرسول، و(السَّفَرة): الرُّسل؛ لأنَّهم يَسفِرون إلى الناس برسالات الله، وقيل: (السَّفرة): الكَتَبَة.
          قوله: (البَرَرَةِ): همُ المطيعون لله، من (البِرِّ)؛ وهو الطاعة، والله أعلم.
          قوله: (وَزَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ): قال ابن الأثير في «نهايته»: (قيل: هو مقلوبٌ؛ أي: زيِّنوا أصواتَكم بالقرآن)، انتهى، وذكر شيخُنا حديثًا كذلك، فقال: (وكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ☺، عن النَّبيِّ صلعم)، انتهى، قال ابن الأثير: (والمعنى: الهَجُوا بقراءته وتزيَّنوا به، وليس ذلك على تطريب القول والتَّحْزِين؛ كقوله: «ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن»؛ أي: يلهج بتلاوته؛ كما يلهج سائر الناس بالغِناء والطَّرَب، هكذا قال الهرويُّ والخَطَّابيُّ ومَن تقدَّمَهُما، وقال آخرون: لا حاجةَ إلى القلب، وإنَّما معناه: الترتيل الذي أُمِر به في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، فكأنَّ الزينة للمرتِّل، لا للقرآن؛ كما يُقال: ويلٌ للشِّعر من رواية السُّوء، فهو راجعٌ إلى الرَّاوي، لا إلى الشِّعر، فكأنَّه تنبيهٌ للمقصِّر في الرِّواية على ما يُعاب عليه من اللَّحن والتصحيف وسُوء الأداء(2)، وحثٌّ لغيره عن التَّوقِّي من ذلك؛ فكذلك قوله: «زيِّنوا القرآنَ» يدُلُّ على ما يُزيَّن [به] من الترتيل والتدبُّر ومُراعاة الإعراب، وقيل: أراد بـ «القُرآن» القِراءةَ، فهو(3) مصدرُ: قَرَأَ يَقْرَأُ قِراءةً وقُرآنًا؛ أي: زيِّنوا قراءَتَكم القرآنَ بأصواتِكم، ويشهد لصحَّة هذا وأنَّ القلبَ لا وجهَ له حديثُ أبي موسى ☺: أنَّ النَّبيَّ صلعم استمع إلى قراءته، فقال: «أُوتِيتَ مِزمارًا مِن مَزامير آلِ داودَ»، فقال: لو علمتُ أنَّك تسمعُ؛ لحبَّرته لك تحبيرًا؛ أي: حسَّنتُ قراءتَه وزيَّنتُها، ويؤيِّدُ ذلك تأييدًا لا شبهةَ فيه حديثُ ابن عَبَّاس ☻: أنَّ رسول الله صلعم قال: «لكلِّ شيءٍ حِلْيَةٌ، وحِلْيَةُ القُرآن حُسنُ الصوت»، والله أعلم)، انتهى لفظه.


[1] كذا في (أ) و(ق)، وهي رواية أبي ذرٍّ عن الحمُّوي والمستملي.
[2] في (أ): (الأدب)، والمثبت من مصدره.
[3] في (أ): (وهو)، والمثبت من مصدره.