التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن}

          قوله: (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:29]): ساق ابن المُنَيِّر ما في الباب على عادته، ثُمَّ قال: (يحتمل أنَّ البُخاريَّ اختار وصفَ الكلام بأنَّه مُحْدَثٌ، لا مخلوقٌ كما زعم بعضُ أهل الظاهر؛ تمسُّكًا بقوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ}[الشعراء:5]، فإن أراد هذا؛ فقد بيَّن أنَّ الإحداثَ ههنا ليس الخَلْقَ والاختراعَ؛ لأنه لو كان مخلوقًا؛ لكان مثلَ كلام المخلوقين، وكما أنَّ الله تعالى ليس كمثله شيءٌ؛ فكذلك ليس كمثل صفاته صفاتٌ، ويحتمل أن يريدَ البُخاريُّ حملَ لفظ «المُحدَث» على معنى الحديث، ففي قوله: {مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}[الأنبياء:2]؛ أي: مُحَدَّثٍ به، والظاهر أنَّه أراد الأوَّلَ، وتخلَّص بنسبةِ(1) الإحداث إلى إنزال علمه على الرسول صلعم والخلق؛ لأنَّ علومَهم مُحْدَثَةٌ)، انتهى، وسيأتي ما قاله شيخُنا فيه قريبًا.
          واعلم أنَّ في المسألة أقوالًا ذكرها شيخُنا قال: (قول أهل الحقِّ: إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، وإنَّه كلامُه، وإنَّما يعنون بذلك الكلامَ القائمَ بذاته سبحانه، الذي هو شيءٌ واحدٌ لا يتجزَّأ، ولا يتقسَّم، ولا يُشبه شيئًا من كلام المخلوقين؛ لأنَّ المتكلِّم به لا يُشبه المتكلِّمين، وإنَّما يُوصَف بأنَّه «كلماتٌ»؛ كما قال تعالى: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ}[لقمان:27]، على سبيل التعليم، وإنَّما هو كلامٌ واحدٌ، والعبارة عنه، واستثقل بعض الحُفَّاظ أن يُقال: عبارة عنه؛ أنَّه مفهومٌ في نفسه، والعبارة عندهم إنَّما تكون عبارةً عمَّا هو غير مفهومٍ، وقالت الخوارج والمرجئة والجَهمِيَّة والنَّجَّاريَّة: إنَّه مخلوقٌ، وقال الثلجيُّ ومَن قال بقوله: القرآنُ مُحْدَثٌ غير مخلوق...) إلى أن قال: (وقال قومٌ: الواجب الوقفُ، ولا نقول: إنَّه مخلوق، ولا: غير مخلوق، والله أعلم).
          قوله: (وَأَنَّ حَدَثَهُ): هو بفتح الهمزة مشدَّد النون في أصلنا.
          قوله: (لَا يُشْبِهُ حَدَثَ المَخْلُوقِينَ): قال شيخُنا: (وغرض البُخاريِّ بهذا الباب: الفرقُ بين وصف كلام الله تعالى بأنَّه مخلوقٌ وبين وصفِه بأنَّه مُحْدَثٌ، فأحال وصفَه بالخلق، وأجازَ وصفَه بالحَدَث؛ اعتمادًا على قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}[الأنبياء:2])، قال: (وهذا القول لبعض المعتزلة ولبعض أهل الظاهر، وهو خطأٌ من القول؛ لأنَّ الذِّكْرَ الموصوفَ في الآية بالإحداث ليس هو نفسَ كلامه تعالى؛ لقيام الدليل على أنَّ «مُحْدَثًا» و«مخلوقًا» و«مُنْشَأً» ألفاظٌ مترادفةٌ على معنًى واحدٍ، وإذا لم يجُزْ وصفُ كلامِه تعالى القائمِ بذاته بأنَّه مخلوقٌ؛ لم يجُزْ وصفُه بأنَّه مُحْدَث، وإذا كان ذلك كذلك؛ كان الذِّكْرُ الموصوفُ في الآية بأنَّه مُحْدَثٌ راجعًا بأنَّه الرسولُ ◙؛ لأنَّه قد سمَّاه الله تعالى: {ذِكْرًا} في آيةٍ أخرى، فقال تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَّسُولًا}[الطلاق:10-11] فسمَّاه: {ذِكْرًا} في هذه الآية، فيكون المعنى: ما يأتيهم رسولٌ، ويحتمل أنَّ «الذِّكْرَ» هنا هو وَعْظُ الرسول ◙ وتحذيرُه إيَّاهم من المعاصي، فسمَّى وعظَه: {ذِكْرًا}، وأضافه إليه تعالى؛ إذ هو فاعلٌ له، ومقدِّرُ رسولِه على اكتسابه، وقال بعض المتكلِّمين في هذه الآية: إنَّ مرجعَ الإحداث إلى الإتيان، لا إلى الذِّكْرِ القديم؛ لأنَّ نزولَ القرآن على رسول الله صلعم كان شيئًا بعد شيءٍ، فكان يحدُث نزولُه حينًا بعد حين، ألا ترى أنَّ العالِمَ يعلم ما لا يعلمه الجاهل؟ فإذا علمه الجاهلُ؛ حدث عنه الحكم، ولم يكن إحداثُه عند المتعلِّم إحداثَ عين العلم، وقد ظهر بما قرَّرْنَاه الردُّ على مَن ادَّعى خلقَ القرآن؛ حيث قالوا: المُحْدَث: هو المخلوق، وقد قرَّرْنَا أنَّ الذِّكْرَ منصَرِفٌ إلى الرسول، وينصرف أيضًا إلى العلم...)، إلى آخر كلامه.
          وقد رأيتُ بخطِّ القاضي العلَّامة جلالِ الدين بن البُلْقينيِّ حاشيةً على هذا المكان، لفظها: (فائدةٌ: زعم بعضُهم أنَّ البُخاريَّ قصد بهذا موافقةَ داودَ الظاهريِّ في إجازة وصفِ الكلامِ القديمِ بأنَّه مُحْدَثٌ، لا مخلوقٌ، وبيَّن أنَّه ليس المراد بالإحداث ضدَّ القديم، بل إنزال علمه على النَّبيِّ صلعم والخلقِ؛ لأنَّ علومَهم مُحْدَثةٌ، ويحتمل أن يريدَ البُخاريُّ حملَ لفظ «المُحْدَث» على معنى الحديث، فمعنى قوله: {مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}[الأنبياء:2]؛ أي: متحَدَّث به(2))، انتهت، وقد كتب بعض الحُفَّاظ المُتَأخِّرين ما لفظه: (داودُ أصغرُ من البُخاريِّ بكثيرٍ، ولعلَّ البُخاريَّ صنَّف قبل أن يتأهَّل داودُ للتصنيف، وقبل أن يجعل له مذهبًا مُفرَدًا)، انتهى.


[1] في (أ): (بِكُنْه)، وفوقها: (كذا)، ولعلَّ لها وجهًا، والمثبت من مصدره.
[2] في (أ): (له)، ولعلَّ المُثْبَتَ هو الصَّوابُ.