التلقيح لفهم قارئ الصحيح

قول النبي: «لا شخص أغير من الله»

          قوله: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ»، وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ»): (عبيد الله بن عمرو) هذا: هو ابنُ أبي الوليد، أبو وَهْب الأسَديُّ مولاهم، الرَّقِّيُّ، أحد الأئمَّة، عن عبد الملك بن عُمير، وعبد الله بن مُحَمَّد بن عَقِيل، وأيُّوب السَّخْتيَانيِّ، وليث بن أبي سُلَيم، والأعمش، وطائفةٍ، وعنه: زكريَّا ويوسف ابنا عديٍّ، ويحيى الوُحاظيُّ، وخلقٌ كثيرٌ، وَثَّقَهُ ابنُ مَعِين والنَّسائيُّ، وقال أبو حاتم: (ثقةٌ صدوقٌ، ولا أعرف له حديثًا منكرًا)، وقال ابن سعدٍ: (كان ثقةً كثيرَ الحديث، وربَّما أخطأ، وكان أحفظَ مَن روى عن عبد الكريم الجزريِّ، ولم يكن أحدٌ ينازعه في الفتوى في دهره، ومات بالرَّقَّة سنة ثمانين ومئة)، وقال غيرُه: (وُلِد سنة إحدى ومئة)، أخرج له الجماعةُ، و(عبد الملك): هو ابنُ عُمَير، أخرج له الجماعة، وله ترجمةٌ في «الميزان»، وسيأتي مَن أخرج هذا التعليقَ قريبًا.
          واعلم أنَّ البُخاريَّ أخرج في هذا الباب حديثَ المغيرة، وليس فيه إلَّا قوله: «وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ»، ولكنْ قبلَه تعليقًا عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بن عُمَير: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ من اللهِ»، وهذا التعليقُ مكتوبٌ عليه في أصلنا الدِّمَشْقيِّ: (لا... إلى) من أوَّله إلى آخره؛ يعني: أنَّه زائدٌ، وهو ثابتٌ في أصلنا القاهريِّ، وقد أخرجه مسلمٌ في (اللعان) عن عبد الملك بن عمير، عن ورَّاد، عن المغيرة بن شعبة: «... ولا شخصَ أغيرُ من الله، ولا شخصَ أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشِّرين ومُنذِرين، ولا شخصَ أحبُّ إليه المدحة من الله؛ من أجل ذلك وعد [الله] الجنَّة»، ثُمَّ أخرجه بسندٍ آخَرَ إلى عبد الملك بن عمير به مثلَه، وقال: «غيرَ مُصْفَـِحٍ»، ولم يقل: «عنه»، قال في «المطالع»: (قيل: معناه: لا ينبغي لشخصٍ أن يكون أغيرَ من الله، و«الشخصُ»: كلُّ جسم له ارتفاعٌ وظهورٌ، والمراد في حقِّ الله تعالى إثباتُ الذَّات، وقد رواه البُخاريُّ: «لا شيءَ أغيرُ من الله»)، انتهى، وقد ذكر ابنُ الأثير مثلَ كلام ابنِ قُرقُول.
          واعلم أنَّ حديث لقيط بن عامر العُقَيليِّ وافدِ بني المُنْتَفِق زاده عبدُ الله ابن الإمام أحمد بن محمد ابن حنبل في «المسند» لأبيه، وهو حديثٌ طويلٌ فيه عجائبُ، ومن جملته _وهو يعني البارئَ جلَّ جلاله_: «شخصٌ واحدٌ»، وقد ذكر عليه كلامًا ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّة في «حادي الأرواح»، وفي آخر الكلام: (قال أبو الخير بن حمدان: هذا حديثٌ كبيرٌ ثابتٌ حسنٌ مشهورٌ، قال ابن القَيِّمِ: وسألت شيخَنا الحافظَ أبا الحَجَّاج المِزِّيَّ عنه فقال: عليه جلالة النبوَّة)، انتهى، وقال قبله: (أخرجه عبد الله بن أحمد، وابن مردويه، وأبو نُعَيم، وغيرُهم)، انتهى، ثُمَّ إنِّي رأيتُه في (كتاب الأهوال) من «المستدرك» للحاكم، وقال: (صحيحٌ)، قال الذَّهَبيُّ في «تلخيصه»: (يعقوب بن مُحَمَّد بن عيسى الزُّهْرِيُّ ضعيفٌ)، انتهى، والحديث الذي رأيتُه أنا في «زوائد المسند» ليس فيه يعقوب بن مُحَمَّد بن عيسى الزُّهْرِيُّ، وإنَّما سنده: قال عبد الله بن أحمد: كتب إليَّ إبراهيمُ بن حمزة بن مُحَمَّد بن حمزة بن مصعب بن الزُّبَير الزُّبيريُّ: حدَّثني / عبد الرَّحْمَن بن المغيرة الحِزاميُّ: حدَّثني عبد الرَّحْمَن ابن عيَّاش السَّمْعِيُّ(1) الأنصاريُّ القُبائيُّ من بني عمرو بن عَوْف، عن دَلْهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المُنْتَفِق العُقَيليِّ، عن أبيه، عن عمِّه لقيط بن عامر، قال دَلْهَم: وحدَّثنيه أبي الأسودُ عن عاصم بن لقيط: أنَّ لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله صلعم...؛ فذكره.
          واعلم أنَّ عبدَ الرَّحْمَن بن عيَّاش روى عنه عبدُ الرَّحْمَن بن المغيرة وحدَه، وقد ذكره ابن حِبَّانَ في «الثقات»، ولم يذكر عنه راويًا سواه، ودَلْهَم: عِدادُه في التَّابعين، قال في «الميزان»: (إنَّه لا يُعرَف، سمع أباه، وعنه: عبد الرَّحْمَن بن عيَّاش المِسْمَعِيُّ وحدَه، وَثَّقَهُ ابن حِبَّانَ، والأسودُ والدُ دَلْهَم: هو ابنُ عبد الله بن حاجب، عن أبيه، وابن عمِّ أبيه عاصم بن لقيط، ما روى عنه سوى دَلْهَم، له حديثٌ واحدٌ، وعاصمُ بنُ لقيط بن صَبِرة، عن أبيه، ما روى عنه سوى إسماعيلَ بنِ كثيرٍ المَكِّيِّ، وقيل: روى دَلْهَم عن أبيه عنه، وَثَّقَهُ النَّسائيُّ، والله أعلم، وهو في نفس الأمر كتابةٌ غير مقرونةٍ بالإجازة، والخلافُ فيها معروفٌ، والصحيح: جواز الرِّواية بها، والله أعلم، كما تَقَدَّمَ مَرَّاتٍ، وهي عندهم من المسندِ الموصولِ.
          والرِّواية التي في الصَّحيح: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ من اللهِ»، قال شيخُنا في أوَّل ما قعد الكلام عليه: (أجمعتِ الأمَّةُ على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يوصفَ بأنَّه شخصٌ؛ لأنَّ التوقيف لم يرد به، وقد منعتِ المعتزلةُ مِن إطلاق الشَّخصِ عليه مع قولهم: إنَّه جسمٌ واحدٌ موضوعٌ للاشتراك من الله ومن خلقه، وقد نصَّ اللهُ على تسمية نفسه فقال: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1])، وقال بعد ذلك عن الدَّاوديِّ: (لم يأتِ متَّصلًا، ولم تتلقَّ الأمَّةُ هذه الأحاديثَ بالقَبول، فإن صحَّ؛ فيَحتمل أنَّ اللهَ أغيرُ مِن خلقه، ليس أحدٌ منهم أغيرَ منه، ولم يُسَمِّ نفسَه شخصًا، إنَّما أتى مرسلًا...) إلى آخر كلامه، وقال شيخُنا عن الخَطَّابيِّ: (إطلاقُ الشخص في صفات الله غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ الشخصَ إنَّما يكون جسمًا مؤلَّفًا، وخليقٌ ألَّا تكون هذه اللفظةُ صحيحةً، وأن تكونَ تصحيفًا من الرَّاوي، ودليله: أنَّ أبا عَوانةَ رواه عن عبد الملك فذكر هذا الحرف، وروته أسماءُ بنت أبي بكر الصِّدِّيق ☻ مرفوعًا: «لا شيءَ أغيرُ من الله» [خ¦5222]، ورواه أبو هريرة كذلك، فدلَّ ذلك أنَّ «الشخص» وَهَمٌ وتصحيفٌ...) إلى آخر كلامه، وقال عنِ ابن فَوْرَك: (لفظ «الشخص» غيرُ ثابتٍ من طريق السَّند، فإن صحَّ؛ فشأنه في الحديث الآخر؛ وهو قوله: «لا أحدَ أغيرُ من الله»، فاستعمل لفظَ «الشخص» موضع «أحد»، كما سلف، والتقدير: أنَّ الأشخاصَ الموصوفةَ بالغَيرة لا تبلغ غَيرتُها _وإنْ تناهتْ_ غَيرةَ الله وإن لم يكن شخصًا بوجهٍ، كما أسلفناه، قال: وإنَّما منعنا من إطلاق لفظ «الشخص» لأمورٍ:
          أحدها: أنَّ اللفظ لم يثبت من طريق السمع.
          وثانيها: إجماع الأمَّة على المنع منه.
          ثالثها: أنَّ معناه أن يكون أجسامًا مؤلَّفة على نوعٍ من التركيب، وقد منعتِ المجسِّمَةُ إطلاقَ «الشخص» مع قولهم بالجسم، فدلَّ ذلك على ما قلناه من الإجماع على منعه في صفته تعالى)، انتهى.


[1] في (أ): (المسمعي)، والمثبت موافق للمصادر، وقد ضبطه به الحافظ في «تقريب التهذيب» (ص 348▒، وقبله ابن نقطة في «تكملة الإكمال» ░3/345▒.