التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء

          ░6▒ بَابٌ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ، يَكْفِيهِ مِنَ المَاءِ
          وَقَالَ الحَسَنُ: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
          قُلْتُ: أسنده ابنُ أبي شَيْبَةَ عن هُشَيْمٍ عن يُونُسَ عنه: ((لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إِلَّا الحَدَثُ)).
          وقال ابنُ حزمٍ: رُوِّيْنَا عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ _يعني في «مصنَّفه» _ عن يُونُسَ عن عُبَيْدٍ عنه: ((يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مِثْلَ الوُضُوءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ))، وحكاه أيضًا عن إبراهيمَ وعَطَاءٍ، وذكره ابنُ المُنْذِرِ عن ابنِ المُسَيِّبِ والزُّهْرِيِّ والثَّوْرِيِّ وابنِ عَبَّاسٍ وأبي جعفرٍ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ واللَّيثِ والحَسَنِ بنِ حَيٍّ وداودَ وابنَ حزمٍ والمُزَنِيِّ، وهو قول أبي حنيفةَ والكوفيِّين.
          وقال مالكٌ: لا يُصَلِّي صلاتا فرضٍ بتيمُّمٍ واحدٍ، فإن تيمَّم وتطوَّع فلا بدَّ له مِنْ تيمُّمٍ آخر للفريضة، فلو تيمَّم ثمَّ صلَّى الفريضة جاز له أن يتنفَّل بعدها بذلك التَّيمُّم.
          وقال الشَّافعيُّ: يتيمَّمُ لكلِّ صلاةِ فرضٍ، وله أن يتنفَّل قبلها وبعدها بذلك التَّيمُّم، وقال شريكٌ: يتيمَّم لكلِّ صلاةٍ، ورُوِيَ مثله عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ وقَتَادَةَ ورَبِيْعَةَ ويحيى بنِ سَعِيْدٍ الأنصاريِّ، وهو قول اللَّيثِ وأحمدَ وإِسْحَاقَ. وقال أبو ثَوْرٍ: يتيمَّم لكلِّ وقت صلاة فرضٍ، إلَّا أنَّه يُصَلِّي الفوائت مِنَ الفروض كلِّها بتيمُّمٍ واحدٍ.
          وذكره البَيْهَقِيُّ مِنْ طريق ابنِ عَبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ مِنْ طريقٍ ضعيفٍ، ومِنْ طريق قَتَادَةَ عن عَمْرِو بنِ العاصي، والحارثِ عن عليٍّ، قال ابنُ حزمٍ: الرِّواية عن ابنِ عَبَّاسٍ ساقطةٌ، وبيَّنها، قال: وقد رُوِيَ نحو قولنا عن ابنِ عَبَّاسٍ أيضًا، قال: والرِّواية عن عليٍّ وابنِ عُمَرَ لا تصحُّ، قال: وحديث عَمْرٍو رواه عنه قَتَادَةَ، وقَتَادَةُ لم يولد إلَّا بعد موته.
          قُلْتُ: وحاصل الأقوال ثلاثةٌ: أحدها: أنَّه يُصَلِّي به ما لم يُحْدِث، ثانيها: أنَّه يُصَلِّي به فرضًا واحدًا، ثالثها: كذلك إلَّا الفوائت، وقد أسلفناه عن أبي ثَوْرٍ، وحُكِيَ أيضًا عن مالكٍ.
          احتجَّ الأوَّل: بالقياس على الوضوء، والثَّاني: بأنَّه طهارةُ ضرورةٍ بدليل نقضه برؤية الماء، وأيضًا لا يصحُّ قبل وقته بخلافه، فإذا لم يجز التَّيمُّم للعصر قبل وقته، وجب ألَّا يجزئ لِمَا بعده إذ العلَّة واحدةٌ، لكنَّ جماعاتٍ خالفوا في هذا وقالوا: إنَّه يصحُّ التَّيمُّم / للفرض قبل وقته، منهم: اللَّيثُ وابنُ شعبانَ المالكيُّ وأهل الظَّاهر والمُزَنِيُّ.
          قال ابنُ رُشْدٍ في «قواعدِه»: واشتراط دخول الوقت ضعيفٌ، فإنَّ التَّأقيت في العبادة لا يكون إلَّا بدليلٍ سمعيٍّ، ويلزم مِنْ ذلك أنَّه لا يجوز إلَّا آخر الوقت، وأمَّا حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((الصَّعِيْدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِيْنَ)) رواه التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ وصحَّحُوه، وخالفَ ابنُ القَطَّانِ فأعلَّه، وصحَّحَ حديثَ أبي هريرةَ عندَ البَزَّارِ مثله، فهو ظاهرٌ للقولِ الأوَّلِ، لكنْ للقائلِ الثَّاني أن يقولَ: إنَّما سمَّاه وضوءًا لقيامه مقامَه، ولا يلزم مِنْ ذلك أن يقوم مقامه مِنْ كلِّ وجهٍ.
          وأمَّا حديث عِمْرَانَ الآتي: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيْدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)) فيحتمل أن يكون المراد-والله أعلم_ أنَّه كافيك ما لم تُحْدِث إذا لم تجد ماء يكفيك للوضوء، وإنَّما قالوا: إنَّه يتيمَّم لكلِّ صلاةٍ خوفَ أن يُضَيِّع طَلَبَ الماء، ويَتَّكِلَ على التَّيمُّم، ويأنسوا إلى الأخفِّ، ويحتمل أنَّه كان كافيك لتلك الصَّلاة وحدها؛ لأنَّها هي الَّتي استباح فيها خوف فوات وقتها، والأوَّل هو ظاهر تبويب البخاريِّ له.
          قال ابنُ حزمٍ: قول مالكٍ لا متعلَّق له بحُجَّةٍ، ولا يخلو التَّيمُّم إمَّا أن يكون طهارةً أم لا، فإن كان طهارةً فيُصَلِّي به ما لم يوجب نقضها قرآنٌ أو سُنَّةٌ، وإلَّا فلا يجوز له أن يُصَلِّيَ بغير طهارةٍ، قال: وقال بعضهم: ليس طهارةً تَامَّةً، ولكنَّه استباحةٌ للصَّلاة، قال: وهو باطلٌ مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: أنَّه قولٌ بلا برهانٍ.
          ثانيها: أنَّ الله سمَّاه طهارةً بقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6].
          ثالثها: أنَّه تناقضٌ منهم؛ لأنَّهم قالوا: ليس طهارةً تَامَّةً، ولكنَّه استباحةٌ للصَّلاة، وهذا كلامٌ يَنقُضُ أوَّله آخره؛ لأنَّ الاستباحة لا تكون إلَّا بطهارةٍ، فهو إذًا طهارة لا طهارة.
          رابعها: هَبْ أنَّهم قالوا استباحةً، فمَنْ أين لهم ألَّا يستبيحوا به فريضةً أخرى كالأولى؟ وفي «الموطَّأ»: ليس المتوضِّئ بأطهرَ مِنَ المتيمِّم، ومَنْ تيمَّم فقد فعل ما أَمَرَ الله تعالى.
          وقالوا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية [المائدة:6] أوجبَ الوضوءَ على كلِّ قائمٍ إلى الصَّلاة، فلمَّا صلَّى ◙ الصَّلوات بوضوءٍ واحدٍ خرج الوضوء بذلك عن حكم الآية، بقي التَّيمُّم على وجوبه على كلِّ قائمٍ إلى الصَّلاة، وليس كما قالوا، لاسيَّما مَنْ أباح القيام للنَّافلة بعد الفريضة بغير تيمُّمٍ، وهم الشَّافعيَّة والمالكيَّة، ولا متعلَّق لهما بشيءٍ مِنْ ذلك، فإنَّ الآية لا توجب شيئًا مِنْ ذلك، ولو أوجبت ذلك لأوجبت غسل الجنابة على كلِّ قائمٍ إلى الصَّلاة أبدًا، وإنَّما حُكْمُ الآية في إيجاب الله تعالى الوضوء والتَّيمُّم والغسل على المُحدِثين والمُجنِبين فقط.
          ثمَّ قال البخاريُّ ☼: (وَأَمَّ ابنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ)، وهذا مِنَ البخاريِّ بيانٌ أنَّه كالوضوءِ، فكما أنَّ المتوضِّئَ يؤمُّ كذلك المتيمِّم، وهو داخلٌ في قوله: (الصَّعِيْدُ الطَّيِّبُ).
          وهذه المسألةُ خلافيَّةٌ، وهو إمامةُ المتيمِّمِ للمتوضِّئين، أجازه مالكٌ وأبو حنيفةَ وأبو يُوسُفَ وزُفَرُ والثَّوْرِيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأهلُ الظَّاهِرِ وأبو ثَوْرٍ، قال ابنُ حزمٍ: ورُوِيَ ذلك عن ابنِ عَبَّاسٍ وعَمَّارٍ وجماعةٍ مِنَ الصَّحابة، وهو قول سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وعَطَاءٍ والزُّهْرِيِّ وحَمَّادٍ.
          ومنعه الأوزاعيُّ ومُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ، وحُكِيَ عن عليٍّ والنَّخَعِيِّ والحَسَنِ بنِ حَيٍّ أيضًا، وكرهه مالكٌ وعبدُ اللهِ بنُ الحَسَنِ مع الإجزاء، وقال رَبِيْعَةُ: لا يؤمُّ المتيمِّمُ مِنْ جنابةٍ إلَّا مَنْ هو مثله، وبه قال يحيى بنُ سَعِيْدٍ الأنصاريُّ، ونقل ابنُ حزمٍ عن الأوزاعيِّ أنَّه لا يؤمُّهم إلَّا إن كان أميرًا، وهو مخالفٌ لِمَا نقله ابنُ بَطَّالٍ وابنُ التِّينِ عنه مِنَ المنع، وقد سلف.
          احتجَّ الأوَّلون بأنَّه مطيعٌ لله تعالى، وليس الَّذي وجد الماءَ بأطهرَ منه ولا أتمَّ صلاةً؛ لأنَّهما أُمِرَا جميعًا، فكلٌّ عمل بالمأمور، احتجَّ مقابله بأنَّ شأن الإمامة الكمالُ، ومعلومٌ أنَّ الطَّهارة بالصَّعيد ضرورةٌ، فأشبهت صلاة القاعدِ المريض يؤمُّ قيامًا والأمِّيِّ يؤمُّ مَنْ يُحسن القراءة.
          وللأوَّل أن يُنازعه في صلاة المريض ويقول: لا نقص فيها، فإنَّه أُمِرَ كذلك، قال أبو طالبٍ: سألت أبا عبد الله عن الجُنُب يؤمُّ المتوضِّئين؟ قال: نعم، قد أمَّ ابنُ عَبَّاسٍ أصحابَه _وفيهم عَمَّارُ بنُ ياسرٍ_ وهو جُنُبٌ فتيمَّم، وعَمْرُو بنُ العاصي صَلَّى بأصحابه وهو جُنُبٌ، فأخبر النَّبيَّ صلعم، فتبسَّم، قُلْتُ: حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ سمع مِنْ عَمْرِو بنِ العاصي، قال: ولكن يقوى بحديث ابنِ عَبَّاسٍ.
          قُلْتُ: وأمَّا حديث جابرٍ المرفوع: ((لَا يَؤُمُّ المُتَيَمِّمُ المُتَوَضِّئِيْنَ)) وحديث عليٍّ الموقوف: ((لَا يَؤُمُّ المُتَيَمِّمُ المُتَوَضِّئِيْنَ، وَلَا المُقَيَّدُ المُطْلَقِيْنَ))، فضعيفان، ضعَّفهما الدَّارَقُطْنِيُّ وابنُ حزمٍ وغيرهما.
          وأغربَ ابنُ شاهينَ فذكر حديث عُمَرَ مرفوعًا: ((لَا يَؤُمُّ المُتَيَمِّمُ المُتَوَضِّئِيْنَ)) في «ناسخِه ومنسوخِه»، ثمَّ ذكرَ بعدَه حديثَ عَمْرِو بنِ العاصي ثمَّ قالَ: يحتملُ أن يكون هذا الحديث ناسخًا للأوَّل، قال: وهذا الحديث أجود إسنادًا مِنْ حديث الزُّهْرِيِّ، وإن صحَّ فيحتمل أن يكون النَّهي في ذلك لضرورةٍ وقعت في وجود الماء.
          فإن قيل: يكون هذا رخصةً لعَمْرٍو إذْ لم ينهه ولم يأمره بالإعادة، قيل له: لو كان رخصةً له دون غيره لم يقل له: ((أَحْسَنْتَ)) وضحك في وجهه، ولقال له كما قال لأبي بُرْدَةَ بنِ نِيَارٍ.
          ثمَّ قال البخاريُّ ☼: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيَمُّمِ بِهَا) هو مذهب جميع العلماء خلافًا لإِسْحَاقَ بنِ رَاهُويه، وقوله ◙: (جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) يدخل فيه السَّبخة وغيرها، كيف والمدينة سبخةٌ؟!
          والسَّبَخةُ واحدُ السِّباخِ، وهو بفتح السِّينِ والباءِ قاله ابنُ التِّينِ، وقال ابنُ سِيدَه: هي أرضٌ ذات ملحٍ ونَزٍّ. وقال صاحب «المطالع»: هي الأرض المالحة، وجمعها سباخٌ، فإذا وَصَفْتَ بها الأرض قُلْتَ: سِبخَةٌ بالكسر، وقال ابنُ الأثيرِ: هي الأرض الَّتي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تُنبِتُ إلَّا بعض الشَّجر.
          ثمَّ ساق البخاريُّ حديثَ عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ بطولِه، وأخرجَه أيضًا في أوَّل علاماتِ النُّبُوَّةِ [خ¦3571]، ومختصرًا في آخر التَّيَمُّمِ [خ¦347]، وأخرجه مسلمٌ في الطَّهارة.
          وهذه القصَّة رواها جماعةٌ مِنَ الصَّحابة غير عِمْرَانَ منهم: أبو قَتَادَةَ _وسيأتي في الصَّلاة_ [خ¦595] وأبو هريرةَ وعَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وذُو مِخْبَرٍ الحبشيُّ وعبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ وعُقْبَةُ بنُ عامرٍ _وسيأتي في الأذان_ [خ¦635] وابنُ عَبَّاسٍ وجُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ ومالكُ بنُ رَبِيْعَةَ وأبو جُحَيْفَةَ وأَنَسٌ.
          قال ابنُ العَرَبِيِّ: ثبت في «الصَّحيح» عن النَّبيِّ صلعم النَّومُ عن الصَّلاة ثلاث مَرَّاتٍ، / إحداها: رواية أبي قَتَادَةَ، ولم يحضر مع النَّبيِّ صلعم أبو بَكْرٍ وعُمَرُ، ثانيها: رواية عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ، حضراها، ثالثها: روايةُ أبي هريرةَ حضرها أبو بَكْرٍ وبلالٌ، وسيأتي ما فيه، ووقعَ في أبي داودَ في حديثِ أبي قَتَادَةَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلعم جَيْشَ الأُمَرَاءِ... فذكره، وهو وهْمٌ؛ لأنَّ جيشَ الأمراءِ كان في مؤتةَ، وهي سَرِيَّةٌ لم يشهدها رسولُ اللهِ صلعم.
          إذا تقرَّرَ لك ذلك فالكلام على حديثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنِ _بنِ عُبَيْدٍ الخُزَاعِيِّ، الكَعْبيِّ، القاضي، المجاب الدَّعوة، تُسَلِّم عليه الملائكة، أبي نُجَيْدٍ، أسلم عام خيبر_ مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: قوله: (كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلعم)، هذا السَّفرُ اختُلِفَ في تعيينِهِ، ففي مسلمٍ مِنْ طريقِ أبي هريرةَ حين قفل مِنْ غزوةِ خيبرَ _بالخاء المعجمة_ ورواه الأَصِيْلِيُّ: حُنَين _بالحاء المهملة_ قالَ: والأوَّلُ غلطٌ، وذكرَ أنَّه وقعَ لمَّا قفل مِنْ حُنَيْنٍ، وذكرَ البَاجِيُّ وابنُ عبدِ البَرِّ أنَّ قول مَنْ قال: خيبرُ أصحُّ، وأنَّه قولُ أهلِ السِّيرِ.
          وفي حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ أنَّ نومَه ذلك كان عامَ الحديبيةِ، وذلك في زمنِ خيبرَ، قالَ البَاجِيُّ: وعليه يدلُّ حديث أبي قَتَادَةَ، قالَ القاضي عياضٌ عن أبي عمر: إنَّ في هذه الأخبارِ أنَّ نومَهُ كانَ مَرَّةً واحدةً.
          وقد أسلفنا عَنِ ابنِ العَرَبِيِّ أنَّه كان ثلاثَ مَرَّاتٍ، ومَنْ تأمَّلَ الأحاديثَ السَّالفةَ وجدَها أكثر مِنْ ذلك، قال القاضي: حديث أبي قَتَادَةَ غير حديث أبي هريرةَ، وكذا حديث عِمْرَانَ، ومِنَ الدَّليل على أنَّ ذلك وقع مرَّتين؛ لأنَّه قد رُوِيَ أنَّ ذلك كان زمن الحديبية، وفي روايةٍ: بطريق مَكَّةَ، والحديبية كانت في السَّادسة، وإسلام عِمْرَانَ وأبي هريرةَ الرَّاوي حديث: ((حِيْنَ قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ)) كان في السَّابعةِ بعد الحديبيةِ، وهما كانا حاضرين الواقعة. قُلْتُ: وذكر ابنُ سَعْدٍ والطَّبَرَانِيُّ وغيرهما أنَّ إسلام عِمْرَانَ كان بمَكَّةَ، شرَّفها الله تعالى.
          وقد روى البَيْهَقِيُّ في «دلائلِه» مِنْ حديث عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي غَزْوَةِ تَبُوْكَ، فَاستَرْقَدَ لَمَّا كَانَ فِيْهَا عَلَى لَيْلَةٍ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى كَانَتِ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ، فَقَالَ: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلَالُ...)) الحديثَ، وفي آخره: ((فَانتَقَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ ذَلِكَ المَنْزِلِ غَيْرَ بَعِيْدٍ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ هَدَرَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِتَبُوْكَ))، ففي هذه الرِّواية أنَّ ذلك وقع بتبوك قبل أن يَصِلَ إليها، وفي رواية أبي هريرةَ: ((حينَ قَفَلَ)).
          وقال النَّوَوِيُّ: هذه الأحاديث جرت في سفرتين أو أسفار، لا في سفرةٍ واحدةٍ، وظاهرُ ألفاظِها تقتضي ذلك.
          ثانيها: قوله: (وَإِنَّا أَسْرَيْنَا) يُقَالُ: سرى وأسرى _لغتان_ سائرَ اللَّيل: عامَّته، وقيل: كلَّه، يُذَكَّر ويُؤَنَّث، ولم يعرف اللِّحْيَانِيُّ إلَّا التَّأنيث، والاسم: السَّرِيَّة.
          ثالثها: قوله: (وَقَعْنَا وَقْعَةً، وَلَا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ المُسَافِرِ مِنْهَا) أي: لأنَّهم أَكَدَّهم السَّير والسَّهَر والتَّعَب، فاستلذُّوا النَّوم لذلك.
          رابعها: الاستيقاظ: الانتباه مِنَ النَّوم.
          الخامس: قوله: (وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلاَنٌ، ثُمَّ فُلاَنٌ، ثُمَّ فُلاَنٌ، يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ، فَنَسِيَ عَوْفٌ) أي الرَّواي عنه، (ثُمَّ عُمَرُ الرَّابِعُ) جاء في رواية سَلْمِ بنِ زَرِيرٍ عن أبي رَجَاءٍ، قال: ((أَوَّلُ مَنِ استَيْقَظَ أبو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ))، وفي رواية سعيدٍ عن أبي هريرة: ((فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم أوَّلَهُمُ استِيْقَاظًا))، وهذا دالٌ على أنَّ ذلك وقع أكثر مِنْ مَرَّةٍ.
          السَّادس: قوله: (وَكَانَ ◙ إِذَا نَامَ لَمْ نُوقِظْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ، لِأَنَّا لاَ نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ) يُؤخَذُ منه أنَّ الأمور يُحكَمُ لها بالأعمِّ؛ لأنَّهم لم يوقظوه خشيةَ ما يحدث مِنْ وحيٍ كما حُكِمَ على النَّائم بحكم الحَدَثِ، وقد لا يحصل، ومع هذا فات الوقت، والآحادُ ينبهون عند الخوفِ، ونومُه ◙ كنوم البشر في بعض الأوقات كما ستعلمُه، إلَّا أنَّه لا يجوز عليه الأضغاث؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ.
          السَّابع: الجليد: القويُّ، يُقَالُ للرَّجل إذا كان قويَّ الجسمِ أو القلبِ: إنَّه لجليدٌ وجَلْدٌ، فعُمَرُ أجلدُ المسلمين وأصلبُهم في أمرِ اللهِ.
          الثَّامن: فيه الرِّحلةُ عَنِ الوادي للصَّلاةِ خارجَه، لكنَّه وادٍ خاصٌّ فلا يُقاسُ به غيره، وقد قال ◙: ((فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ)) والشَّارع يُطلعه الله على أمرٍ يغيب عنَّا.
          التَّاسع: قوله: (فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوْتِهِ رَسُولُ اللهِ) فيه التَّأدُّب في إيقاظ السَّيِّد كما فعل عُمَرُ؛ لأنَّه لم يوقظه بالنِّداء بل أيقظه بذكر الله، إذْ علم عُمَرُ أنَّ أَمْرَ الله يحثُّه على القيام.
          العاشر: معنى: (لَا ضَيْرَ) أي: ما جرى لا يضرُّ، وشكواهم هو فوتهم الصَّلاة.
          الحادي عشر: إن قُلْتَ: كيف نام ◙ في الوادي عن صلاة الصُّبح حتَّى طلعت الشَّمس مع إخباره بنوم عينِه دون قلبه؟ قُلْتُ: لا تنافي بينهما؛ لأنَّ الشَّمس تُدرَكُ بحاسَّة البصر لا بالقلب، وأبعدَ مَنْ قال: إنَّ ذلك باعتبار الغالب وقد يندر منه غير ذلك، وأراد الله تعالى بذلك إبراز حكمٍ وتقريرَ شرعٍ، وإنَّما لم ينم قلبُه لأجل ما يُوحَى إليه، فقد كان يُسمَعُ غطيطُه ثمَّ يُصَلِّي ولا يتوضَّأ.
          فإن قُلْتَ: لولا عادتُه الاستغراقَ في النَّوم؛ لَمَا قال لبلالٍ: ((اكْلَأْ لَنَا الصُّبْحَ))، قُلْتُ: لعلَّه لأجل التَّغليس، فإنَّه كان مِنْ شأنه، ومراعاةُ أوَّل الفجر إنَّما يُدرَكُ بالمراقبة بالجوارح الظَّاهرة.
          الثَّاني عشر: ارتحالُهم إنَّما كان لأجل الشَّيطان أو الغفلة، كما ورد في الحديث، لا لأنَّ القضاء لا يُشرَعُ عند الطُّلوع كما تعلَّق به بعض الحنفيَّة، ويُوَهِّنُه أنَّه لم يوقظهم إلَّا حرُّ الشَّمس، وهذا وقتٌ يسوغ فيه القضاء بالإجماع، وصار هذا كنهيِه عَنِ الصَّلاة بأرض بابلَ، والوضوءِ مِنْ بئر ثمودَ إلَّا بئر النَّاقة.
          وأبعدَ مَنِ ادَّعى نَسْخَهُ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقوله: ((مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)) فإنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، وهذه القصَّةُ بعد الهجرة، بل روى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عَطَاءِ بنِ أبي رباحٍ: أنَّه ◙ ركعَ ركعتين في مُعَرَّسِه ثمَّ سارَ، وكذا ذكره ذو مِخْبَرٍ أيضًا في حديثِه، وكلُّ وقتٍ جاز للنَّافلةِ فالفريضةُ أجوزُ بالإجماعِ.
          الثَّالث عشر: قضاء الفائتة بعذرٍ عندنا على التَّراخي وبغيرِه على الفور، فتأخيرُه عليهِ السَّلامُ القضاء لعذرِ المكان كما سلف.
          الرَّابع عشر: فيه كما قال المُهَلَّبُ: أنَّ مَنْ حَلَّتْ به فتنةٌ في بلدٍ فليخرج عنه، وليهرب مِنَ الفتنةِ بدينه، كما فعلَ الشَّارعُ بارتحالِه عن بطنِ الوادي الَّذي تشاءمَ به لأجلِ الشَّيطان.
          الخامس عشر: فيه أيضًا أنَّ مَنْ ذكر صلاةً له أن يأخذَ فيما يُصلحه لصلاتِه مِنْ طهورٍ ووضوءٍ وانتقاءِ البقعة الَّتي تَطِيبُ عليها نَفْسُه للصَّلاة، كما فعل الشَّارع بعد أن ذكر الفائتة، فارتحل بعد الذِّكر ثمَّ توضَّأ وتوضَّأ النَّاس، وهذا لا يَتِمُّ إلَّا في مهلةٍ، ثمَّ أذَّن / واجتمع النَّاس وصلُّوا.
          السَّادس عشر: أنَّ مَنْ فاته صلاةٌ وتأخَّر البدارُ المذكور إليها لا يُخرِجُه عن كونه ذاكرًا لها.
          السَّابع عشر: في مسلمٍ مِنْ حديث أبي قَتَادَةَ: ((فَنَزَلُوا وَتَوَضَّئُوا وأَذَّنَ بِلَالٌ، فصَلَّوا رَكعَتِي الفَجرِ، ثُمَّ صَلَّوا الفَجْرَ)) وكذا جاء في حديث عِمْرَانَ وعَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ ففيه: الأذانُ للفائتةِ، وقضاءُ السُّنَنِ الفوائتِ، والجماعةُ في الفوائتِ لقوله: (فَصَلَّى بِالنَّاسِ).
          الثَّامن عشر: قوله: (إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ...) الحديثَ، قد سلفَ تعيينُ هذا المبهم، وقوله: (عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ) هو موضعُ التَّرجمةِ.
          التَّاسع عشر: قوله: (فَدَعَا فُلاَنًا) _كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ_ هو عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ، كما جاءَ في روايةِ سَلْمِ بنِ زَرِيرٍ، وسَيَّرَهُ مع عليٍّ وغيرِهما، وفيه: طلبُ الماءِ للشُّربِ والوضوءِ، والبعثةُ فيه.
          العشرون: قوله: (فَابْتَغِيَا المَاءَ) أي: اُطلباه يُقَالُ: بغيتَ الشَّيءَ طلبتَه، وبغيتُ الشَّيء طلبتُه لك.
          الحادي بعد العشرين: المَزَادَةُ _بفتح الميم_ أكبرُ مِنَ القِرْبَة، والميمُ زائدةٌ، قال أبو عُبَيْدٍ: ولا تكونُ إلَّا مِنْ جِلْدٍ يُقَامُ بجِلدٍ ثالثٍ بينهما، سُمِّيَت مَزَادَةً؛ لأنَّه يُزَادُ فيها جِلدٌ مِنْ غيرها لِتَكْبُرَ به، مَفْعَلَةٌ مِنْ ذلك.
          الثَّاني بعد العشرين: السَّطِيحَةُ: المَزَادَةُ، قالَه ابنُ الأعرابيِّ، قالَ ابنُ سِيدَه: هي الَّتي مِنْ أَدِيمَينِ قُوبِلَ أحدُهما بالآخرِ، وفي «الجامعِ»: هي إداوةٌ تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدَينِ وهي أكبرُ مِنَ القِربَةِ.
          الثَّالث بعد العشرين: قولها: (وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ) أمَّا النَّفَرُ فبالتَّحريك: يقعُ على جماعةٍ مِنَ الرِّجالِ خَاصَّةً، ما بين الثَّلاثةِ إلى العشرةِ، ولا واحد له مِنْ لفظِه، قاله الخَطَّابِيُّ، سُمُّوا بذلك مِنَ النَّفَرِ لأنَّه إذا حَزَبَهم أمرٌ اجتمعُوا، ثمَّ نَفَرُوا إلى عدوِّهم، قال في «الواعي»: ولا يقولون: عشرون نفرًا، ولا ثلاثون نفرًا.
          والخُلُوفُ _بضمِّ الخاءِ_ الغُيَّبُ، يُقَالُ: حيٌّ خُلُوفٌ إذا غابَ رجالُهم وبقي نساؤُهم، وقالَ الخَطَّابيُّ: الَّذين خرجُوا للاستقاءِ وخلَّفُوا النِّسَاءَ والأثقالَ، وحُكِيَ أيضًا الخُلُوف: الَّذين غابُوا وخلَّفُوا أثقالَهم، وخرجُوا إلى رعيٍ أو سقيٍ قال تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ} [التَّوبة:87]، أيِ النِّسَاءُ، وقالَ أبو عُبَيْدٍ: الحيُّ خُلُوفٌ غُيَّبٌ وحُضُورٌ ومنه هذه الآية، وقال الدَّاوُدِيُّ: خُلُوفٌ أي: متقاربون.
          الرَّابع بعد العشرين: (الصَّابِئُ): قال أبو سُلَيْمَانَ: كلُّ مَنْ خرجَ مِنْ دينٍ إلى غيرِه، سُمِّيَ صابئًا، مهموزٌ، يُقَالُ: صَبَأَ الرَّجلُ: إذا فعلَ ذلك، فأمَّا الصَّابي _بلا همزٍ_ فهو الَّذي يميلُ إلى اللهوِ، يُقَالُ: صَبَا يصبو فهو صابٍ.
          وفي بعضِ نسخِ البخاريِّ في آخرِ الحديثِ: <قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: صَبَأَ: خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ: الصَّابِئِينَ: فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ>، وهذا أسنده ابنُ جَرِيرٍ في «تفسيره»، وحكى خلافًا كثيرًا فيمَنْ يلزمه هذا الاسم، ومحلُّ الخوضِ فيه كتبُ التَّفسيرِ، وفي كتابِ الرُّشَاطِيِّ: الصَّابِئُ نسبةً إلى صَابِئِ بنِ مُتَوَشلِخَ وكانَ على الحنيفيَّة الأولى، وقيل: هي نسبةٌ إلى صَابِئِ بنِ ماري، وكان في عصرِ إبراهيمَ الخليلِ.
          الخامس بعد العشرين: قوله: (فَفَرَّغَ فِي أَفْوَاهِ المَزَادَتَيْنِ) الفَمُ: هو الأعلى مِنَ المَزَادَة، (وَأَوْكَأَ): شَدَّ.
          و(العَزَالِيَ) _بفتحِ العينِ المهملةِ ثمَّ زايٌ مفتوحةٌ أيضًا_ مَصَبُّ الماءِ مِنَ الرَّاويةِ والقِربَة، جمع عزلاءُ، وفي «الجامع»: عزلاء القِربَة: عصبٌ يُجعَلُ في إحدى يديها يُستفرغُ منه ما فيها، وسُمِّيَت عَزَالِيَ السَّحاب تشبيهًا بهذا.
          قال ابنُ التِّينِ: وإن شئتَ مثل الصَّحَارَى والعَذَارَى، قال: وبالفتح رُوِّيْنَاه، وهو أفواه المَزَادَة السُّفلى، وقال الدَّاوُدِيُّ: العَزَالِيَ الجوانبُ الخارجة كرجلي الزَّقِّ الَّذي يُرسَلُ منها الماء.
          قال الدَّاوُدِيُّ: وليس في أكثر الرِّوايات الفتح ولا إطلاق (العَزَالِيَ)، وإنَّما سقوا المزادتين، ومعنى صبُّوا منهما: أنَّه مال فيه ثمَّ أعاده فيهما إن كان هو المحفوظ، كذا قال.
          السَّادس بعد العشرين: قوله: (وَايْمُ اللهِ) هو قسمٌ، ويُقال: اَيْمُنُ بزيادة نونٍ، وأَلِفُه أَلِفُ وصلٍ في الأسماء مفتوحًا، وحُذفت النُّون استخفافًا، فقالوا: وايْمُ الله، وبالكسر أيضًا، وقال ابنُ كَيْسَانَ وابنُ دُرُسْتَوَيْه: أَلِفُ أيمُن أَلِفُ قطعٍ _جمعُ يمينٍ_ وإنَّما خُفِّفَتْ همزتُها وطُرِحَتْ في الوصل لكثرة استعمالهم لها.
          السَّابع بعد العشرين: قوله: (إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا) معناه أنَّ فيها مِنَ الماء فيما يظهر لنا أكثر ممَّا كان، وفي ذلك معجزةٌ ظاهرةٌ باهرةٌ، وهو أنَّ القوم أسقوا واستقوا وشربوا _وكانوا عطاشًا_ واغتسل الجُنُب، وبقيت المزادتان مملوءتين ببركتِه وعظيمِ برهانه، وفي طريق سَلْمِ بنِ زَرِيرٍ أنَّهم كانوا أربعين، وأنَّهم ملؤوا كلَّ قِربَةٍ معهم وإداوةٍ، وذلك ببركتِه ◙.
          قال القاضي عياضٌ: وظاهر هذه الرِّواية أنَّ جملةَ مَنْ حضر هذه القصَّة كانوا أربعين، ولا نعلم مَخرَجًا لرسول الله صلعم يَخرُجُ في هذا العدد، فلعلَّ الركَّب الَّذين عجَّلهم بين يديه لطلب الماء، وأنَّهم وجدوا المرأة، وأنَّهم استَقَوا لرسولِ اللهِ قَبْلَ النَّاسِ، وشَرِبُوا ثمَّ شَرِبَ النَّاسُ بعدهم.
          الثَّامن بعد العشرين: إن قُلْتَ: كيف استباحوا أَخْذَ الماء الَّذي مع المرأة؟ قُلْتُ: لأوجهٍ: أحدها: لكفرها، ثانيها: على تقدير أنْ لو كانت مسلمةً فِدَاءُ نفس الشَّارع بالنَّفس واجبٌ، ثالثها: لضرورة العطش، فإنَّها تُبيح للإنسان الماءَ المملوكَ لغيره على عِوَضٍ يُعطيه، رابعُها: أنَّ الماء لم يَنقص شيئًا، ذكرها ابنُ الجوزيِّ.
          التَّاسع بعد العشرين: قوله: (اِجْمَعُوا لَهَا) إنَّما فعل ذلك تَأَلُّفًا لها ولقومها على الإسلام، والعجوةُ: نوعٌ مِنْ تمرِ المدينةِ أكبرُ مِنَ الصَّيحَانِيِّ، وتُسَمَّى اللِّينَةُ، وهي مِنْ أجودِ تمرِ المدينةِ.
          الثَّلاثون: قوله: (وَدُقَيقَةٍ) يجوز فيه ضمُّ الدَّال وفتحها، قال ابنُ التِّينِ: وهما روايتان، وقوله: (وَسُوَيِّقَةٍ) هو بتشديد الياء.
          قوله: (تَعَلَّمِيْنَ) أي اعلمي، وقوله: (مَا رَزِئْنَا) أي نَقَصْنَا، قال ابنُ التِّينِ: ورُوِّيْنَاه بكسرِ الزَّاي وفتحِها، ولم يَذْكُرِ ابنُ قُرقُولَ غيرَ الكسرِ قالَ: وقالَ أبو زيدٍ الأنصاريُّ: رَزَأتُه أَرزَأهُ رُزءًا / إذا أَصَبْتُ منه، وذكر ابنُ الأثيرِ أنَّ ما نقصنا منه شيئًا ولا أخذنا.
          وقوله: (هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا) أي جعلَ لنا سُقْيَا، يُقَالُ: سقى وأسقى بمعنًى، وقيل باختلافٍ.
          و(الصِّرْمَ) _بكسرِ الصَّادِ المهملةِ وسكونِ الرَّاءِ_ الجماعةُ ينزلون بإبلهم ناحيةً على ماءٍ، والجمعُ أصرامٌ، فأمَّا الصِّرمة _بالهاء_ فالقطعةُ مِنَ الإبلِ نحو الثَّلاثين، وقالَ ابنُ سِيدَه: الصِّرمُ الأبياتُ المجتمعةُ المنقطعةُ مِنَ النَّاسِ، والصِّرمُ أيضًا الجماعةُ مِنْ ذلك.
          وفيه: مراعاةُ ذِمَام الكافر والمحافظةُ به، كما حفظَ النَّبيُّ صلعم هذه المرأة في قومِها وبلادِها، فراعى في قومِها ذِمَامَها، وإن كانت مِنْ صميمهم فهي مِنْ أدناهم، وكان تَرْكُ الغارة على قومها سببًا لإسلامها وإسلامهم وسعادتهم.
          وفيه: بيان مقدار الانتفاع بالاستئلاف على الإسلام؛ لأنَّ قعودهم عن الغارة على قومها كان استئلافًا لهم، فعلم القوم قدر ذلك وبادروا إلى الإسلام رعايةً لذلك الحقِّ.