التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي

          الحديث الثَّاني:
          335- حَدِيثُ يَزِيدَ الفَقِيرِ عَنْ جابرٍ مرفوعًا: (أُعْطِيْتُ خَمْسًا...) الحديثَ.
          والكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه أيضًا في الصَّلاة [خ¦438]، وبعضُه في فرضِ الخُمُسِ [خ¦3122]، وأخرجَه مسلمٌ في الصَّلاةِ، والنَّسَائِيُّ في الطَّهارةِ، ويَزِيدُ هذا ليس فقيرًا وإنما لُقِّبَ بذلك؛ لأنَّه كان مكسورَ فَقَارَ ظهرِهِ، قال في «المحكمِ»: رجلٌ فقيرٌ وفِقِّيرٌ: مكسورُ فقارِ الظَّهرِ.
          ثانيها: عدَّ كون الأرضِ مسجدًا وطهورًا خصلةً واحدةً، وإلَّا كانت ستًّا، وفي مسلمٍ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ: ((فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ، وأُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ))، وعنده أيضًا مِنْ حديثِ حُذَيْفَةَ: ((فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلَائِكَةِ، وجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ)) وللدَّارَقُطْنِيِّ: ((وَتُرَابُهَا)) بدل ((وَتُرْبَتُهَا)) ولا تَعَارُضَ بينها، فالأعدادُ لا تدلُّ على الحصرِ ويجوزُ أن يكونَ أعلمَه اللهُ تعالى أوَّلًا بالقليلِ ثمَّ بالكثيرِ.
          ثالثها: قوله: (لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) أي لم تُجمَع لأحدٍ قبله.
          رابعها: النَّصرُ العونُ، و(الرُّعْبِ) الخوفُ والوجلُ، و(الشَّفَاعَةَ) الطَّلبُ أو الدُّعاءُ، والمسجدُ _بفتحِ الجيمِ وكسرِها_ والمراد به هنا موضعُ السُّجُودِ.
          وقوله: (فَأَيُّمَا رَجُلٍ) ما زائدةٌ لتوكيدِ الشَّرطِ، والفاءُ في (فَلْيُصَلِّ) جوابُ الشَّرطِ، والطَّهورُ هو المطهَّرُ.
          وفيه: إظهارُ كرامةِ الآدميِّ؛ لأنَّه خُلِقَ مِنْ ماءٍ وترابٍ، فجعلَهما اللهُ طهورين لهذا.
          خامسها: استدلَّ به مَنْ جوَّزَ التَّيَمُّمَ بجميعِ أجزاءِ الأرضِ، وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ حتَّى جوَّزاه بصخرةٍ مغسولةٍ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ (مِنْ) الدَّالَّة على التَّبعيضِ في الآيةِ تقتضي أن يمسحَ بشيءٍ يحصلُ على الوجهِ واليدين بعضه.
          وقد أنصفَ الزَّمَخْشَرِيُّ وهو مِنَ الحنفيَّةِ، فإنَّه أبرزَ ما ذكرناه في صورةِ سؤالٍ يدلُّ على المنعِ بالحَجَرِ ونحوِهِ، وأجابَ بقولِه: قُلْتُ: هو كما نقولُ، والحقُّ أحقُّ مِنَ المِرَاءِ، / وأبعدَ ابنُ كَيْسَانَ وابنُ عُلَيَّةَ فقالا بجوازِه بالمِسْكِ والزَّعْفَرَان، نقلَه عنهما النَّقَّاشُ في «تفسيرِهِ».
          سادسها: قوله: (فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ) هذا عامٌّ إلَّا ما خرجَ بدليلٍ، كالمكانِ المغصوبِ ونحوِه، وتُكرَهُ الصَّلاةُ في مواطنَ كالحمَّامِ وغيرِه ممَّا هو مبسوطٌ في الفروعِ، ولم يَأْتِ في أثرٍ، كما قالَ ابنُ بَطَّالٍ عَنِ المُهَلَّبِ: أنَّ الأرضَ مُنِعَتْ مِنْ غيرِه ◙ مسجدًا، وقد كان عِيسَى يسيحُ في الأرضِ ويُصَلِّي حيثُ أدركَتْه الصَّلاةُ فالمجموعُ ثبت، وغيرُه لم تُجْعَلْ له طهورًا.
          سابعها: قد يُؤخَذُ مِنْ هذا أنَّه لا يجوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا بعدَ دخول الوقت كما هو مذهبُ الجمهورِ، وقد يُؤخَذُ منه أيضًا تيمُّمُ الحضريِّ إذا عَدِمَ الماءَ وخافَ فوتَ الصَّلاةِ.
          ثامنها: الغنائمُ: جمع غنيمةٍ، وكانت قبلنا ممَّن له الجهاد إذا حصَّلُوها جاءَتْ نارٌ فأحرقَتْها، فأباحَها اللهُ لنا.
          تاسعها: الألفُ واللَّامُ في الشَّفاعةِ للعهدِ، وهي العُظمى المختصَّة به، وله ◙ سبعُ شفاعاتٍ أُخر ذكرتُها في «غايةِ السُّولِ في خصائصِ الرَّسُولِ» فرَاجِعْها منه، وقد أوضحْتُ الكلامَ على هذا الحديثِ في «شرحِ العمدةِ».
          ومِنْ ذلك بَعْثُه (إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الحُجَّةَ تلزمُ بالخبرِ كما تلزمُ بالمشاهدةِ، وذلك أنَّ الآيةَ المعجزةَ باقيةٌ _وهي القرآن_ قائمةٌ بما فيه؛ لبقاءِ دعوتِهِ ووجوبِها على مَنْ بَلَغَتْه إلى آخرِ الزَّمانِ.