التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السلم إلى من ليس عنده أصل

          ░3▒ بَابُ: السَّلَمِ إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ.
          2244- 2245- ذَكر فيه حديثَ محمَّد بن أبي المُجالد السَّالفَ وفيه: (هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي عَهْدِهِ يُسْلِفُونَ فِي الحِنْطَةِ؟ فقَالَ عَبْدُ اللهِ: كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِي الحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
          وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبْزَى، وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ: أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ؟)
          وفي رواية: (وَقَالَ: وَالزَّيْتِ).
          ورواه عن محمَّد هذا شعبةُ في الباب قبله، وهنا (الشَّيْبَانِيُّ) وهو سُلَيمان_كما ذكره بعدُ في باب: السَّلم إلى أجل معلوم_ ابن أبي سليمان فَيْرُوزَ _وقيل خَاقانَ_ مولى شيبانَ بن ثَعْلَبَةَ، مات بعد الأربعين ومئةٍ أو قُبيلَها.
          وأبو عمرٍو الشَّيبانيُّ منسوب إلى شَيْبانَ بنِ ذُهْلِ بن ثَعْلبَةَ، واسمُه سعدُ بن إياسٍ. ورواه وكيعٌ، عن شُعْبةَ به، وفيه: لا ندري عند أصحابه مِنْه شيءٌ أم لا.
          وقول البخاريِّ: (حدَّثنا إِسْحَاقُ) هو ابن شاهينٍ الواسطيُّ، مات بعد الخمسين ومئتين.
          وذكر فيه أيضًا عن ابن عبَّاس: (أنَّه سُئِلَ عن السَّلم في النَّخل، فقال: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حتَّى يُؤْكَلَ مِنْه وَحَتَّى يُوزَنَ. فَقَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِه: حتَّى يُحْزَر).
          وهو في مسلم أيضًا، وقال: ((سَأَلْتُهُ عَنْ بَيْعِ النَّخْل)) واعترض ابن بَطَّال، فقال: هذا الحديث ليس مِنْ هذا الباب، وإنَّما هو مِنَ الباب الَّذي بعده، وغَلِطَ فيه النَّاسخ. قلت: لم يغلط فيه، قال ابن المنيِّر: التَّحقيق أنَّه مِنْ هذا الباب، وقَلَّ مَنْ يفهمُ ذلك إلَّا مثلُ البخاريِّ، ووجهُه أنَّ ابن عبَّاس لمَّا سُئِلَ عن السَّلم إلى مَنْ له نخلٌ في ذلك النَّخل، عَدَّ ذلك مِنْ قَبيل بيعِ الثِّمار قبل بدوِّ صلاحها، فإذا كان السَّلم في النَّخيل لا يجوز، لم يبقَ في وجودها في ملك المسلم إليه فائدة متعلِّقة بالسَّلم، فيصير جواز السَّلم إلى مَنْ ليس عنده أصلٌ، ولا يلزم سدُّ باب السَّلم، وإنَّما كُره السَّلم إلى مَنْ ليس عنده أصلٌ، لأنَّه جعله مِنْ باب الغَرَر. وأصلُ السَّلم أن يكون إلى مَنْ عنده ممَّا يُسلِم فيه أصلٌ، إلَّا أنَّه لمَّا وردت السُّنَّة في السَّلم بالصِّفة المعلومة والكيل والوزن والأجل المعلوم كان ذلك عامًّا فيمَنْ عنده أصلٌ، وفيمَنْ ليس عنده، وجماعةُ الفقهاء يجيزونه إلى مَنْ ليس عنده أصلٌ، وحجَّتهم حديثُ الباب، وهو نصٌّ فيه، وزعم أنَّه لا يجوز سَلَمُ مَنْ لا أصلَ له، وليس مِنْ شرطه عند مالكٍ أن يكون المسلَم فيه موجودًا حالَ العقد خلافًا لأبي حنيفة، وإنَّما مِنْ شرطه أن يكون موجودًا حال حلوله.
          وفيه مِنَ الفقه: جواز السَّلم في العروض إلى مَنْ ليس عنده ما باع بالسَّلم، ولو كان عندما باع ما حلَّ البيع، لأنَّه بيعُ شيءٍ معيَّن لم يُقبض إلى مدَّة طويلةٍ، وهذا لا يجوز بإجماع كما قاله المهلَّب.
          وفيه مبايعةُ أهل الذِّمَّة والسَّلَمُ إليهم، وإباحةُ السَّلَم في السَّمن والشَّيْرق، وما أشبه ذلك، إذ هو في معنى الزَّيت.
          فائدة: قوله: (نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ)، ويأتي: ((أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّأْمِ)) هم نصارى الشَّام الَّذين عمروها، قال الجوهريُّ: نَبَطَ الماءُ يَنْبِطُ ويَنْبُطُ نُبُوطًا: نَبَعَ فهو نَبِيطٌ للَّذي يَنْبطُ مِنْ قعر البئر إذا حُفرت، وأَنْبَطَ الحفَّارُ: بَلَغَ الماءَ. والاستنباط: الاستخراج، والنَّبَطُ والنَّبيطُ قومٌ ينزلون بالبطائح بين العراقَين، والجمع أنباطٌ، يُقال: رجلٌ نَبَطيٌّ ونَبَاطيٌّ ونَبَاطٍ، وحكى يعقوبُ: نُباطيٌّ بالنُّون المضمومة، وقد استنبط الرَّجل.
          فائدة ثانية: (يُحْرَزَ) جعل الحزرَ وزنًا تمثيلًا له، فإنَّه يخبر بالخرص عن مقدار، كأنَّه وزنه، وفائدة الخرص إذا اشتدَّ وصلُح للأكل وأمنه مِنَ العاهة أن يعلم كميَّة حقوق الفقراء قبل أن يأكل مِنْه أربابُه، ثمَّ يخلَّى بينهم وبينَه، ثمَّ يؤخَّر العُشر بالخرص.
          قال الخطَّابيُّ: وقوله: (حَتَّى يُوزَنَ) معناه حتَّى يُخرص، وسمَّاه وزنًا، لأنَّ الخارص يحزرها ويقدِّرها، فيحلُّ ذلك محلَّ الوزن لها. والمعنى في النَّهي عن بيعها قبل الخَرص شيئان:
          أحدهما: تحصينُ الأموال، وذلك أنَّها في الغالب لا تأمن العاهة إلَّا بعد الإدراك، وهو أوان الخَرص.
          الثَّاني: أنَّه إذا باعها قبل بدوِّه على القطع سقط حقوقُ الفقراء، لأنَّ الله سبحانه أوجب إخراجَها وقت الحصاد.