التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السلم في كيل معلوم

          ░1▒ بَابُ: السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ.
          2239- ذكر فيه حديثَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي المِنْهالِ، عَنِ ابن عبَّاس قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم المَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ العَامَ وَالعَامَيْنِ، أَوْ قَالَ: عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، شَكَّ إِسْمَاعِيلُ _يعني ابن عُليَّة_ فَقَالَ: مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ).
          هذا الحديثُ أخرجه مسلم أيضًا، وزاد: ((إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ))، وفي لفظ: ((مَنْ أَسْلَفَ))، وفي لفظ: ((مَنْ سلم)). وفي رواية للبخاريِّ: ((مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ)).
          و(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) اسمُه عبد الله بن يَسارٍ مولى الأخنس، مكِّيٌّ، مات سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومئة. و(أَبُو المِنْهالِ) اسمُه عبد الرَّحمن بن مُطْعِمٍ، بصريٌّ، نزل مكَّة.
          وقول البخاريِّ بعده: (حدَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا إِسْمَاعِيلُ) محمَّد هو ابن سلَام البِيْكَنْديُّ، كذا بخطِّ الدِّمْياطيِّ، وسبقَه إليه أبو عليٍّ الجَيَّانيُّ حيث قال: لم ينسُبْه أحدٌ مِنَ الرُّواة والَّذي عندي في هذا أنَّه محمَّد بنُ سَلَام. وذكر أبو نَصْرٍ أنَّ ابنَ سَلَام روى عن ابن عُليَّة.
          و(عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ) هو أخو كَثير بن كَثير بن المطَّلب بن أبي وَدَاعةَ الحارثِ بن صُبَيْرَةَ بن سعيد بن سعد / بن سهلِ السَّهْميُّ المكِّيُّ القاصُّ، اتَّفقا عليهما، وليس هو بابن كَثيرٍ القارئ، وليس له في البخاريِّ غيرُ هذا الحديث، وذَكر له مسلمٌ حديثًا آخر في الجنائز، رواه عنه ابنُ جُرَيجٍ.
          وأمَّا ابنُ التِّين فقال نقلًا عن أبي الحسن القابسيِّ وغيره: هو عبد الله بن كَثير أحدُ القرَّاء السَّبعة، وليس له في البخاريِّ غير هذا الحديث، وليس لأحدٍ فيه روايةٌ مِنَ القرَّاء السَّبعة إلَّا هو وابنُ أبي النُّجود في المتابعة، قال: وقوله هذا غيرُ صحيحٍ، وإنَّما هو ما تقدَّم، وهو أبو مَعْبَدٍ القاريُّ، ووقع في «المدوَّنة»: عبد الله بن أبي كَثير، وغَلِط فيه، وصوابه: حذفُ أبي.
          إذا عرفتَ ذلك، فالسَّلم والسَّلف بمعنًى، سُمِّيَ سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقدُّمه، ويُطلق أيضًا على القَرضِ كما قاله الأَزهريُّ. قال الماوَرْديُّ: والسَّلم لغةٌ حجازيَّة، والسَّلف لغة عراقيَّة. قلت: قد ثبتا في الحديث كما ذكرته لك. وفي «غريب الحديث» للخطَّابي أنَّ ابن عمر كان يكرهُ أن يُقال: السَّلم بمعنى السَّلف، وكان يقول: الإسلام لله، ضنَّ بالاسم الَّذي هو موضوعٌ للطَّاعة أن يُمتَهن في غيرها، وصيانةً عن أن يُبذل فيما سواها. وأخرجه البَيْهَقيُّ في «سننه» أيضًا موقوفًا على ابن عمر أنَّه كان يَكره هذه الكلمةَ: أسلم في كذا وكذا، ويقول: لربِّ العالمين.
          والسَّلم هو المراد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282].
          قال ابن عبَّاس: المراد به السَّلم، ويحتمل كما قال الشَّافعيُّ أن يكون المرادُ بها كلَّ دَينٍ، فلا يدلُّ على خصوصيَّته بالسَّلم، وحقيقتُه في الشَّرع: إسلامُ شيءٍ حاضرٍ في غائبٍ بلفظه، وقام الإجماع على أنَّه لا يجوز السَّلم إلَّا في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلومٍ، فيما يُكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إذا كان السَّلم فيما لا يُكال ولا يوزن أنَّه لا بدَّ فيه مِنْ عددٍ معلوم، وأجمعوا أنَّه لا بدَّ مِنْ صفة الشَّيء المسلَم فيه. ويدخل في قوله: (كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ)، إذ العلم بهما يستلزمُه.
          وقال ابنُ حزمٍ: لا يجوز السَّلم إلَّا في مكيلٍ أو موزونٍ فقط، ولا يجوز في حيوان، ولا في مذروعٍ أو معدود، ولا في شيءٍ غير ما ذُكر، قال: وكرهتْ طائفةٌ السَّلم، رُوِيَ عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنَّه كان يَكره السَّلم كلَّه، قال: وأباح أبو حنيفة ومالكٌ السَّلف في العدد والمذروع مِنَ الثِّياب بغير ذِكر وزنه، ومنعَا مِنَ السَّلف حالًّا، وجوَّزه الشَّافعيُّ حالًّا، لأنَّه إذا جاز مؤجَّلًا فالحالُّ أجوَزُ. والحديثُ سيق لبيان العلمِ بالأجل، وأجاز السَّلم في كلِّ شيء قياسًا على المكيل والموزون، قال: والأجلُ ساعةٌ فما فوقَها. وقال بعضُ الحنفية: لا يكون أقلَّ مِنْ نصف يوم. وقال بعضهم: لا يكون أقلَّ مِنْ ثلاثة أيَّام. وقال المالكيُّون: يُكره أقلُّ مِنْ يومين. وقال اللَّيث: خمسة عشر يومًا. قلت: ورواية ابن القاسم عن مالك: ما تتغيَّر فيه الأسواق. ورواية ابن عبد الحكم عنه أنَّه لا بدَّ فيه من الأجل وإن كان أيامًا يسيرة.
          واختُلف في السَّلم في البيض، فلم يُجزْه أبو حنيفة، وأجازه مالكٌ بالعدد، وفي اللَّحم أجازه الشَّافعيُّ ومالك، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السَّلم في الرُّؤوس والأكارعِ منعه أبو حنيفة، وأجازه مالكٌ، واختَلف فيه قولُ الشَّافعيِّ، والسَّلم في الدُّرِّ والفُصوص أجازه مالكٌ، ولم يتعرَّض في الحديث لموضع القَبض، وليس بشرطٍ عند مالكٍ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ولو كان شرطًا لبيَّنه، وقال بعضُ الناس: لا يجوز حتَّى يسمِّيَه.
          وقال القاضي في «معونته»: الأَولى أن يُسمِّي، فإن أطلق جازَ ولزم الموضعَ الَّذي عقدَ فيه، أو جرى لهم عرفٌ في قبض سَلَمهم.
          ونَقل ابنُ بَطَّال عن مالكٍ أنَّه إن لم يذكر الموضع جاز السَّلم، ويقبضه في المكان الَّذي كان فيه السَّلم، فإن اختلفا في الموضع فالقول قولُ البائع. وقال الثَّوريُّ وأبو حنيفة: لا يجوز فيما له حملٌ ومُؤْنة إلَّا أن يشترط في تسليمه مكانًا معلومًا. وعند الشَّافعيَّة: أنَّه إذا أسلم بموضعٍ لا يصلح للتَّسليم، أو يصلُح ولحملِه مُؤْنةٌ لا بدَّ مِنِ اشتراط بيان محلِّه وإلَّا فلا.
          وقوله: (يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ العَامَ وَالعَامَيْنِ) فيه إجازةُ السَّلم فيه، وإن لم يكن ذلك الوقتُ موجودًا إذا وجد في وقت يحلُّ فيه السَّلم.