شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلح مع المشركين

          ░7▒ باب: الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ
          فِيهِ: عَنْ أبي سُفْيَانَ. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبيِّ صلعم: (ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ، /
          وَفِيهِ عن سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: رَأَيْتُنَا يَومَ أَبِي جَنْدَلٍ، وفيه عن أَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ، عَنِ النَّبيِّ صلعم.
          قَالَ الْبَرَاءُ: صَالَحَ النَّبيُّ صلعم الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ على ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: على أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رُدَّ(1) إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَلاَّ يَدْخُلَهَا إلَّا(2) مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ: السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ في قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ).
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ على أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَخَرَجَ). [خ¦2701]
          وفيه: سَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إلى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ. [خ¦2702]
          قال المؤلِّف: صلح المسلمين هذا للمشركين جائزٌ إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلم يكن بالمسلمين طاقةٌ على العدوِّ، فأمَّا إذا قدروا عليهم فلا يجوز مصالحتهم؛ لقوله ╡: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ}[محمد:35].
          قال المُهَلَّب: وإنَّما قاضاهم النبيُّ صلعم هذه القضيَّة التي ظاهرها الوهن على المسلمين؛ لسبب حبس الله ╡ ناقة رسول الله صلعم عن مكَّة حين توجَّه إليها فبركت به، فقال أصحابه: خلأت. فقال النبيُّ صلعم: ((ما خلأت ولا هو لها بخلقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل)) وكانت إذا حولِّت عن مكَّة قامت ومشت، وإذا حُرِّفت إلى مكَّة بركت، وكذلك كانت حالة الفيل، ففهمها رسول الله صلعم من ربِّه ولم يتعرَّض لدخوله مكَّة، وقبل مصالحة المشركين، وحبس جيشه عن انتهاك حرمات الحرم وأهله، ولمَّا كان قد سبق في علمه ╡ من دخول أهل مكَّة في الإسلام فقال صلعم:((لا يسألوني اليوم خطَّةً يعظِّمون فيها حرمات الله أو الحرم إلَّا أعطيتهم إيَّاها))، فكان ممَّا سألوه أن يعظِّم به أهل الحرم أن يردَّ إليهم من خرج عنهم ومن حرمهم مسلمًا أو غيره، وألَّا يردُّوا(3) ولا يخرجوا من الحرم من فرَّ إليه من المسلمين، وكان هذا من إجلال حرمة الحرم، فلهذا عاقدهم على ذلك مع يقين ما وعده الله تعالى أنَّه ستفتح عليه ويدخلها حتَّى قال له عمر: ألست أخبرتنا أنَّا داخلون مكَّة؟ فقال(4): ((هل أخبرتك أنَّك داخله(5) العام؟)) فدلَّ هذا أنَّ المدَّة التي قاضى النبيُّ صلعم أهل مكَّة فيها إنَّما كانت من الله ╡ مبالغةً في الإعذار إليهم مع ما سبق من علمه من دخولهم في الإسلام(6).
          قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدَّة التي كانت بين رسول الله صلعم وبين أهل مكَّة عام الحديبية. فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين. وقال ابن جُريج: كانت ثلاث سنين.
          وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعيُّ: لا يجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبيُّ صلعم بالحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضةٌ؛ لأنَّ الأصل فرض قتال المشركين حتَّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
          وقال ابن حبيبٍ عن مالكٍ: يجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدَّةٍ، وإجازته(7) ذلك إلى غير مدَّةٍ يدلُّ على أنَّه تجوز مدَّةٌ طويلةٌ، وأنَّ ذلك لاجتهاد الإمام، بخلاف قول الشافعيِّ.
          وقوله: (يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ)والحجل: مشي المقيَّد. من كتاب «العين».


[1] في (ص): ((رده)).
[2] في (ص): ((على أن يدخلها)).
[3] قوله: ((وألا يردوا)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((قال)).
[5] في (ص): ((داخلها)).
[6] قوله: ((في الإسلام)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((فإجازته)).