شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس

          ░2▒ باب: لَيْسَ الْكَاذِبُ الذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ
          فيه: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ قَالَتَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ: (لَيْسَ الْكَاذِبُ الذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا وَيَقُولُ(1) خَيْرًا). [خ¦2692]
          وفي هذا الحديث: زيادةٌ لم يذكرها البخاريُّ في حديثه، حدَّثنا بذلك أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الهمدانيُّ قال: حدَّثنا أبو الربيع محمَّد بن الفضيل البلخيُّ الصَّفَّار، حدَّثنا عبد الله بن محمَّد بن إسحاق الخُزَاعِيُّ، حدَّثني أبو يحيى بن أبي ميسرة، حدَّثنا يحيى بن محمَّد الحارثيُّ، حدَّثنا عبد العزيز بن محمَّدٍ، عن عبد الوهَّاب بن رفيعٍ، عن ابن شهابٍ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمِّه أمِّ كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت النَّبيَّ صلعم يرخِّص في الكذب إلَّا في ثلاثٍ: كان النبيُّ صلعم يقول: ((لا أعدُّهن كذبًا: الرجل يصلح بين الناس يقول قولًا يريد به الصلاح، والرجل يحدِّث زوجته، والمرأة تحدِّث زوجها، والرجل يقول في الحرب)).
          قال الطبريُّ: اختلف العلماء في هذا الباب فقالت طائفةٌ: الكذب الذي رخَّص فيه رسول الله صلعم في هذه الثلاث هو جميع معاني الكذب. واحتجُّوا بما رواه الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزَّال بن سَبْرة قال: كنَّا عند عثمان، وعنده حذيفة فقال له عثمان: إنَّه بلغني عنك أنَّك قلت كذا وكذا. فقال حذيفة: والله ما قلته. وقد سمعناه قبل ذلك يقوله، فلمَّا خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقول؟ قال: بلى. قلنا: فلم حلفت؟ قال: إنِّي أشتري(2) ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلُّه. واحتجُّوا بحديث ابن شهابٍ أن عُمَر بن الخطَّاب قال لقيس بن مكشوحٍ: هل حدَّثت نفسك بقتلي؟ قال: لو هممت فعلت. فقال عمر له: لو قلت: نعم ضربت عنقك، فنفاه من المدينة، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: لو قال: نعم ضربت عنقه؟ قال: لا ولكن أسترهبه بذلك.
          وقالت طائفةٌ: لا يصلح الكذب تعريضًا ولا تصريحًا في جدٍّ ولا لعبٍ. روى سفيان عن الأعمش قال: ذكرت لإبراهيم الحديث الذي رُخِّص فيه الكذب في الإصلاح بين الناس، فقال إبراهيم: كانوا لا يرخِّصون في الكذب في جدٍّ ولا هزلٍ. وروى مجاهدٌ عن أبي معمرٍ، عن ابن مسعودٍ قال: لا يصلح الكذب في جدٍّ ولا هزلٍ(3) ولا أن يعد أحدكم ولده شيئًا ثمَّ لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119].
          وقال آخرون: بل الذي رُخِّص فيه هو المعاريض. وقد قال ابن عبَّاسٍ: ما أحبُّ بأنَّ لي بمعاريض الكذب كذا وكذا. وهو قول سفيان وجمهور العلماء.
          وقال المُهَلَّب: ليس لأحدٍ أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبيُّ صلعم عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنَّه / مجانبٌ للإيمان، فلا يجوز استباحة شيءٍ منه، وإنَّما أطلق ◙ للصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين، ويسكت عمَّا سمع من الشرِّ بينهم ويعد أن يسهل ما صعب ويقرِّب ما بعد، لا أنَّه يخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه؛ لأنَّ الله قد حرَّم ذلك ورسوله صلعم، وكذلك الرجل يعد المرأة ويُمنِّيها وليس هذا من الكذب؛ لأنَّ حقيقة الكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقةً حتَّى ينجز، والإنجاز مرجوٌّ(4) في الاستقبال فلا يصح أن يكون كذبًا.
          وكذلك في الحرب أيضًا إنَّما يجوز فيها المعاريض والإيهام بألفاظٍ تحتمل وجهين فيؤدِّي بها عن أحد المعنيين ليغترَّ السامع(5) بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقة الإخبار عن الشيء بخلافه وضدِّه، ونحو ذلك ما روي عن النبيِّ صلعم: ((أنَّه مازح عجوزًا فقال: إنَّ العُجَّز لا يدخلن الجنَّة)) فأوهمها في ظاهر الأمر أنَّهنَّ لا يدخلن أصلًا، وإنَّما أراد أنَّهنَّ لا يدخلن الجنَّة إلَّا شبابًا، فهذا وشبهه من المعاريض التي فيها مندوحةٌ عن الكذب، فإن لم يسمع المصلح شيئًا فله أن يعد بخيرٍ ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع ونحوه.
          قال الطبريُّ: والصواب في ذلك قول من قال: الكذب الذي أذن فيه النبيُّ صلعم هو ما كان تعريضًا ينحو به نحو الصدق، نحو ما روي عن إبراهيم النَّخَعِيِّ أنَّ امرأته عاتبته في جاريةٍ وفي يده مروحة فجعل إبراهيم النَّخَعِيُّ يقول: اشهدوا أنَّها لها ويشير بالمروحة(6) فلمَّا قامت امرأته قال: على أيِّ شيءٍ أشهدتكم؟ قالوا: أشهدتنا على أنَّها لها. قال: ألم تروني أنِّي أشير بالمروحة.
          وأمَّا صريح الكذب فهو غير جائزٍ لأحدٍ كما قال ابن مسعودٍ لما روي عن رسول الله صلعم من تحريمه والوعيد عليه، وأمَّا قول حذيفة فإنَّه خارجٌ عن معاني الكذب التي روي عن النبيِّ صلعم أنَّه أذن فيها، وإنَّما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذي يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيي به نفسه، وكذلك الحالف له أن يخلِّص نفسه ببعض ما حرَّم الله عليه، وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، وسيأتي في كتاب الأدب باب المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، وأذكر فيها شيئًا من هذا الباب إن شاء الله تعالى(7). [خ¦6209]


[1] في (ص): ((أو قال)).
[2] في (ص): ((أستر)).
[3] قوله: ((وروى مجاهد عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل)) ليس في (ص).
[4] في (ز): ((موجود)) والمثبت من (ص).
[5] في (ص): ((الناس)).
[6] قوله: ((ويشير بالمروحة)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((وأذكر فيها من هذا الباب إن شاء الله تعالى)) ليس في (ص).