شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثةً

          ░8▒ باب: الصَّيدِ إِذَا غَابَ عَنهُ يَومَينِ أَو ثَلاثَةً
          فيه: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (إِنْ رَمَيْتَ صيدًا، فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ في الْمَاءِ، فَلا تَأْكُلْ).
          وَقَالَ عَدِيٌّ أيضًا: إنا نَرْمِي الصَّيْدَ فَنَفْتَقِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، ثُمَّ نَجِدُهُ مَيِّتًا، وَفِيهِ سَهْمُهُ؟ قَالَ: (يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ). [خ¦5484]
          اختلف العلماء في الصَّيد يغيب عن صاحبه، فقال الأوزاعيُّ: إذا وجده من الغد ميتًا ووجد فيه سهمه أو أثرًا من كلبه، فليأكله. وهو قول أشهب وابن الماجِشون وابن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: إذا مات وأنفذت الجوارح أو السَّهم مقاتله، ولم يشكَّ في ذلك فليؤكل.
          وذكر ابن القصَّار أنَّه روي مثله عن مالكٍ، والمعروف عنه خلافه.
          وقال مالكٌ في «الموطَّأ» و«المدوَّنة»: لا بأس بأكل الصَّيد وإن غاب عنك مصرعه، إذا وجدت به أثرًا من كلبك، أو كان به سهمك، ما لم يبت، فإذا بات لم يؤكل.
          وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصَّيد والكلب في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله، وإن ترك الكلب الطَّلب واشتغل بعمل غيره، ثمَّ ذهب في طلبه فوجده مقتولًا والكلب عنده كرهت أكله.
          وقال الشَّافعيُّ: القياس ألَّا يأكله إذا غاب عنه / لأنَّه يمكن أن يكون غيره قتله، وقد قال ابن عبَّاسٍ: ((كل ما أصميت ودع ما أنميت)).
          وقال أبو عبيد: الإصماء: أن يرميه فيموت بين يديه لم يغب عنه، والإنماء: أن يغيب عنه فيجده ميتًا.
          واحتجَّ ابن القصَّار لأهل المقالة الأولى الذين أوقفوا حديث عديٍّ قالوا: إنَّ النَّبيَّ صلعم أجاز أكله بعد يومين وثلاثةً إذا وجد فيه أثر سهمه، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم بيَّن له أنَّه إنَّما يحلُّ أكله بشرط أن يجد فيه أثر سهمه أو سهمَه وهو يعلم أنَّه قتله، فإذا عدم الشَّرط لم يحلَّ.
          واحتجَّ الكوفيُّون بقول عديٍّ: (إِنَّا نَرمِي الصَّيدَ، فَنَقْتَفو أَثَرَهُ اليَومَينِ والثَّلاثَةَ، يَأْكُل إِنْ شَاءَ). قالوا: إنَّما أباح أكله لأجل افتقاده أثره، وهو أن يتَّبعه؛ لأنَّه إذا لم يتَّبعه ووجده مقتولًا عسى أن يكون قد صار مقدورًا عليه فلم يلحق ذكاته فلا يؤكل. فيقال لهم: قد جاء حديث عديٍّ في أوَّل هذا الباب أنَّه قال: (إِذَا رَمَيتَ صَيدًا فَوَجَدتَهُ بَعدَ يَومٍ أَو يَومَينِ، وَلَيسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهمِكِ فَكُلْ) ولم يذكر الاتِّباع فنستعمل الجميع، فيجوز أن يؤكل وإن لم يتَّبعه إذا كان فيه سهمه ولا أثر فيه غيره، ويستعمل خبركم إذا شاهده قد أنفذ مقاتله، ثمَّ غاب الصَيد عنه ثمَّ وجده على حاله، واستعمال الأخبار أولى من إسقاط بعضها.
          وأمَّا قولهم: إذا لم يتَّبعه لم يأمن أن يكون قد صار مقدورًا عليه. فإنَّنا نقول: هذا حُكمٌ بشيءٍ مظنونٍ، وإنَّما يجوز أكله إذا لم ير فيه أثرًا غير كون سهمه فيه، ولو روعي هذا الذي ذكره لوجب أن يتوقَّف عن كلِّ صيدٍ؛ لأنَّه يجوز أن يكون مات خوفًا وفزعًا، وإن شاهدناه واتَّبعناه، فإذا وجدنا السَّهم فيه ولا أثر فيه غيره فالظَّاهر أنَّه مات منه.
          وقد روي عن النَّبيِّ صلعم ((أنَّه مرَّ بالرَوحاء فإذا هو بوحشٍ عقيرٍ فيه سهمٌ قد مات، فقال النَّبيُّ صلعم: دعوه حتَّى يجيء صاحبه فجاء البهزيُّ، فقال: يا رسول الله, هي رميتي. فأمره أن يقسمه بين الرِّفقة وهم محرمون)). ولو كان الحكم يختلف بين أن يتَّبعه حتَّى يجده، أو يشتغل عنه ثمَّ يطلبه ويجده، لاستفسره(1) صلعم فلمَّا لم يسأل عن ذلك وقال: ((دعوه حتَّى يجيء صاحبه)) ولم يزد: هل كان يتَّبعه؟ علم أنَّ الحكم لا يختلف.
          والحجَّة لقول مالكٍ: ما روي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه سئل عن الرَّجل يرمي الصَّيد فيجد فيه سهمه من الغد، قال: لو أعلم أنَّ سهمك قتله لأمرتك بأكله ولكن لا أدري قتله بردٌ أو غيره، وفي حديث آخر: ((وما غاب عنك ليلةً فلا تأكله)).
          قال ابن القصَّار: وهذا عندي على الكراهية والله أعلم.
          واقتفوت الأثر: اتَّبعته.


[1] في (ص): ((ولاستفسره)) والمثبت من المطبوع.