شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا أكل الكلب

          ░7▒ باب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ
          وَقَوْلُهُ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}الآية[المائدة:4].
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ}[المائدة:4]فَيضْرَبُ وَيُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ.
          وفيه: عَدِيٌّ: (سَأَلْتُ النَّبيَّ صلعم فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلابِ، فَقَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلا تَأْكُلْ). [خ¦5483]
          اختلف العلماء في الكلب المعلَّم إذا أكل من الصَّيد هل يجوز أكله أم لا؟ فقال ابن عبَّاسٍ: إذا أكل فقد أفسده وأمسك على نفسه.
          وقال بذلك من التَّابعين: الشَّعبيُّ وعطاءٌ وعكرمة وطاوسٌ والنَّخعيُّ وقَتادة، وحجَّتهم حديث عديِّ بن حاتم، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ قالوا كلُّهم: إذا أكل الكلب من الصَّيد فهو غير معلَّمٍ، فلا يؤكل صيده.
          وفيها قولٌ آخر روي عن جماعةٍ من الصَّحابة والتَابعين أنَّهم قالوا: كل وإن أكل الكلب ولو لم يبق إلَّا نصفه، هذا قول عليِّ بن أبي / طالبٍ وابن عمر وسعد بن أبي وقَّاصٍ وسلمان الفارسيِّ، ومن التَّابعين سعيد بن المسيِّب وسليمان بن يسارٍ والحسن والزُّهريِّ وربيعة، وهو قول مالكٍ واللَّيث والأوزاعيِّ، وحجَّتهم ما رواه أبو داود، حدَّثنا محمَّد بن عيسى، حدَّثنا هشيمٌ، حدَّثنا داود بن عَمْرٍو، عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولانيِّ، عن أبي ثعلبة الخشنيِّ قال: قال رسول الله صلعم: ((إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه)). وقال لي بعض شيوخي: في الظَّاهر أنَّ حديث أبي ثعلبة ناسخٌ لحديث عديٍّ.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: إنَّما ذكر في الحديث ((إن أكل فلا تأكل)) قال إسماعيل: ولما ثبت في حديث عديٍّ وغيره أنَّ النَّبيَّ صلعم جعل قتل الكلب للصَّيد تذكيةً. لم يضرَّ ما حدث بعد التَّذكية من أكل الكلب أو غيره، كما أنَّ البهيمة إذا ذبحت لم يضرَّ لحمها ما حدث بعد التَّذكية، وإنَّما الكلب بمنزلة السَّهم إنَّما أرسلته؛ فذهب بإرسالي إلى الصَّيد فقتله، فكأنِّي أنا قتلته، فكذلك السَّهم إذا أرسلته من يدي فأصاب الصَّيد فكأنِّي أنا ذبحت الصَّيد؛ لأنِّي لا أنال الصَّيد الذي أناله بيدي إلَّا كذلك. والمعنى في قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}[المائدة:4]حبسه الصَّيد حتَّى جئت فأدركته مقتولًا، فلا يضرُّه ما صنع بلحمه بعد التَّذكية.
          قال المُهَلَّب: ويحتمل أن يكون معنى قوله صلعم: ((فإنِّي أخشى أن يكون قد أمسك على نفسه)) إذا أكل الكلب قبل إنفاذ مقاتله وفوات نفسه.
          وقد أجمع العلماء أنَّه إن أكل الكلب وحياته قائمةٌ حتَّى مات من أجل أكله أنَّه غير مذكَّى ولا يحلُّ أكله، وهو في معنى الوقيذ.
          قال إسماعيل: والذين قالوا: إذا أكل الكلب فلا يؤكل. يقولون إذا أكل البازي والصَّقر فلا بأس أن يؤكل، قالوا: لأنَّ الكلب ينهى فينتهي، والبازي والصَّقر إنَّما يُعلَّمان بالأكل.
          قال إسماعيل: وهذا يفسد اعتلالهم، ولو كانت علَّتهم صحيحةً لكان البازي والصَّقر إذا أكلا أمسكا على أنفسهما أيضًا؛ إذ الطَّير في معنى الكلاب، لأنَّها جوارحٌ، والجوارح عند العرب الكواسب على أهلها قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ}[الأنعام:60]أي: كسبتم، وقوله: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}[الجاثية:21].
          وروي عن ابن عمر ومجاهدٍ قولٌ شاذٌّ أنَّه لا يكون جارحٌ إلَّا كلبًا، وكرها صيد الطَّير، والنَّاس على خلافهم لما دلَّ عليه الكتاب من كونها كلُّها جوارحٌ.