عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي
  
              

          ░17▒ (ص) بابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ: عَبْدِي وَأَمَتِي.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان التطاول؛ أي: الترفُّع والتَّجاوز عن الحدِّ فيه، قيل: المراد بالكراهية كراهة التَّنزيه؛ وذلك لأنَّ الكلَّ عَبيد الله، والله لطيف بعباده رفيقٌ بهم، فينبغي للسَّادة امتثالُ ذلك في عَبيدهم، ومَن مَلَّكَهم الله إيَّاهم، ويجب عليهم حُسن الملك ولين الجانب؛ كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم والانقياد لهم وترك مخالفتهم.
          قوله: (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفٌ على (كراهية التطاول) والتقدير: وكراهية قول الشخص لمن يملكه من العبيد: عَبْدِي، ولمن يملك من الجواري: أَمَتِي، والكراهة فيه أيضًا للتنزيه من غير تحريمٍ، وجه الكراهة: أنَّ هذا الاسم من باب المضاف، ومقتضاه إثبات العبوديَّة له، وصاحبه الذي هو المالك عبدٌ لله تعالى، مُتعبَّد بأمره ونهيه، فإدخال مملوك الله تعالى تحت هذا الاسم يُوجب الشرك ومعنى المضاهاة؛ فلذلك استُحِبَّ له أن يقول: فتايَ وفتاتي، والمعنى في ذلك كلِّه يرجع إلى البراءة من الكِبْرِ، والأليق بالشخص الذي هو عبدٌ لله ومملوكٌ له ألَّا يقول: عبدي، وإن كان قد ملك قِيَادَه في الاستخدام؛ ابتلاءً فيه من الله بخلقه، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[الفرقان:20] وقال الدَّاوديُّ: إن قال: عبدي أو أَمَتي، ولم يُرد التكبُّر؛ فأرجو أن لا إثم عليه.
          (ص) وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}[النور:32] وقال: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا}[النحل:75] {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}[يوسف:25] وقال: {مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}[النساء:25] وقال النَّبِيُّ صلعم : «قومُوا إلى سَيِّدِكُمْ» و{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}[يوسف:2] عِنْدَ سَيِّدِكَ، وَ«مَنْ سَيِّدُكُمْ؟».
          (ش) ذكر هذا كلَّه دليلًا لجواز أن يقول: عبدي وأَمَتي، [وأنَّ النَّهي الذي ورد في الحديث عن قول الرجل: «عبدي وأمتي»] وعن قوله: «اِسْقِ ربَّكَ»، ونحوه للتنزيه لا للتحريم.
          قوله: ({وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}) هو في (سورة النور)، وأوَّله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[النور:32] ولمَّا أمر الله تعالى قبل هذه الآية بغضِّ الأبصار وحفظ / الفروج بقوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30] الآية؛ بيَّن بعده أنَّ الذي أمر به إِنَّما هو فيما لا يَحِلُّ، فبيَّن بعد ذلك طريق الحِلِّ، فقال: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى} أصلها: (أيايم) فَقُلِبَ، و(الأيِّم) للرجل والمرأة، فـ(الأيامى) هم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيِّمٌ، وامرأة أيِّم وأيِّمة، وآمَ الرجل وآمَتِ المرأةُ، يَأْيم أَيْمَةً وأُيُومًا وتَأيُّمًا؛ إذا لم يتزوَّجْهَا، بِكْرَين كانا أو ثيِّبين، وقال ابن بَطَّالٍ: جاز أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي؛ لقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وإِنَّما نهى عنه على سبيل الغِلْظَة، لا على سبيل التحريم، وكُرِه ذلك لاشتراك اللفظ؛ إذ يُقال: عبد الله وأَمَة الله.
          قوله: (وَقَالَ:{عَبْدًا مَّمْلُوكًا}) هو في (سورة النحل) وأوَّله: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية[النحل:5] وقد مرَّ الكلام فيه في أَوَّل (باب مَن مَلَكَ مِن العرب رقيقًا).
          قوله: ({وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}) هو في (سورة يوسف) وقبله: {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} الآية[يوسف:25] والقصة مشهورة، والمعنى: تسابقا إلى الباب _يعني: يوسف وزليخا_ فنفر يوسف عنها، فأسرع يريد الباب ليخرج، وأسرعت زليخا وراءه لتمنعه الخروجَ، {وقَدَّت قميصه من دُبُرٍ} لأنَّها جبذته من خلفه فشقَّت قميصه، {وألفيا سيِّدها} أي: صادفا ولَقِيا بَعْلَها، وهو قطفير، وإِنَّما قال: {سيِّدها} ولم يقل: سيِّدهما؛ لأنَّ مِلْكَ يوسف لم يصحَّ، فلم يكن سيِّدًا له على الحقيقة.
          قوله: (وَقَالَ: {مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}) هو في (سورة النساء) وأوَّله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية[النساء:5] يعني: مَن لم يجد منكم طَولًا _أي: سَعَة وقدرة_ أن ينكح المحصنات المؤمنات من الحرائر العفائف المؤمنات؛ فتزوَّجوا من الإماء المؤمنات اللَّاتي يَمْلِكُهُنَّ المؤمنون، و(الفتيات) جمع (فتاة) وهي الأَمَة.
          قوله: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «قومُوا إلى سَيِّدِكُمْ») هو قطعة من حديث أبي سعيد الخُدْريِّ، أخرجه البُخَاريُّ في (المغازي) على ما يأتي، فقال: حدَّثني مُحَمَّد بن بشَّار: حدَّثنا غُنْدر: حدَّثنا شُعبة عن سعد قال: سمعت أبا أمامة قال: سمعت أبا سعيد الخُدْريَّ يقول: نزل أهل قُريظة على حُكم سعد بن معاذ ☺ ، فأرسل النَّبِيُّ صلعم إلى سعدٍ، فأتى على حمار، فلمَّا دنا من المسجد؛ قال للأنصار: «قوموا إلى سيِّدكم....» الحديث، وخاطب الأنصارَ بقوله: «قوموا إلى سيِّدكم» يريد به سعد بن معاذ، فمن هذا أُخِذَ أن لا يُمنع العبد أن يقول: سيِّدي ومولاي؛ لأنَّ مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده والسياسة له وحسن التدبير؛ ولذلك سمَّى الزوج سيِّدًا، كما في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}[يوسف:25] وقد قيل لمالك: هل كَرِه أحدٌ بالمدينة قوله لسيِّده: يا سيِّدي؟ قال: لا، واحتجَّ بهذه الآية وقولِه تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}[آل عِمْرَان:39] قيل له: يقولون: السيِّد هو الله؟ قال: أين هو في كتاب الله تعالى؟ وإِنَّما في القرآن: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}[نوح:28] قيل: أُنْكِر أن يدعوا: يا سيِّدي، قال: ما في القرآن أحبُّ إليَّ، ودعاء الأنبياء ‰ ، وقد قال بعض أهل اللُّغة: إِنَّما سُمِّي السيِّد لأنَّه يملك السواد الأعظم، وقد قال صلعم في الحَسَن: «إنَّ ابني هذا سيِّدٌ».
          قوله: (وَ{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}) هو في (سورة يوسف) وأوَّله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} الآية[يوسف:42] وقصته مشهورة، معناه: صِفْنِي عند الملك بصفتي، وقُصَّ عليه بقصَّتي؛ لعلَّه يرحمني ويُخرجني من السِّجن، فلمَّا وَكَّل أمره إلى غير الله؛ أمكثه في السجن سبع سنين، وقال الخَطَّابيُّ: لا يقال: أَطْعِم ربَّك؛ لأنَّ الإنسان مربوبٌ مأمورٌ بإخلاص التوحيد وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة بالاسم، وأَمَّا غيره من سائر الحيوان والجماد؛ فلا بأس بإطلاق هذا الاسم عليه عند الإضافة؛ كقولهم: رَبُّ الدَّار، ورَبُّ الدَّابَّة، وقال الكَرْمَانِيُّ: قد ورد في القرآن مثل قوله: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}[يوسف:23] و{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}[يوسف:42] قُلْت: ذاك شرعُ مَن قبلنا، فَإِنْ قُلْتَ: كما أنَّهُ لا ربَّ حقيقةً غير الله؛ كذا / لا سيِّدَ ولا مولى حقيقةً أيضًا إلَّا الله، فَلِمَ جاز هذا، وامتنع هذا؟ قُلْت: التربية الحقيقيَّة مختصَّة بالله تعالى، بخلاف السيادة، فَإِنَّها ظاهرةٌ أنَّ بعض الناس ساداتٌ على الآخرين، وأَمَّا المولى، فقد جاء بمعانٍ بعضها لا يصحُّ إلَّا على المخلوق.
          قوله: (وَ«مَنْ سِيِّدُكُم؟») هذه اللفظة سقطت من رواية النَّسَفِيِّ وأبي ذرٍّ وأبي الوقت، وثبتت في رواية الباقين، وهي قطعة من حديثٍ أخرجه البُخَاريُّ في «الأدب المفرد» من طريق حَجَّاج الصوَّاف عن أبي الزُّبَير قال: حدَّثنا جابر قال: قال رسول الله صلعم : «مَن سيِّدُكم يا بني سلمة؟» قلنا: الجَدُّ بن قيس، على أنَّا نُبخِّله، قال: «وأيُّ داءٍ أدوى من البخل؟ بل سيِّدكم عَمْرو بن الجَمُوح»، وكان عَمْرو على أصنامهم في الجاهليَّة، وكان يُولِمُ عن رسول لله صلعم إذا تزوَّج، وأخرجه الحاكم من طريق مُحَمَّد بن عَمْرو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَة نحوه.
          و(الجَدُّ) بفتح الجيم وتشديد الدال، هو ابن قيس بن صخر بن خَنْساء بن سنان بن عُبيد بن عَدِيِّ بن غَنْم _بسكون النون_ ابن كعب بن سلِمة؛ بكسر اللام، يُكْنَى أبا عبد الله، وقال أبو عمر: كان يُرمَى بالنِّفاق، ويقال: إنَّهُ تاب وحَسُنَت توبته، وعاش إلى أن مات في خلافة عثمان ☺ ، وأَمَّا (عَمْرو بن الجموح) بفتح الجيم وضمِّ الميم المُخَفَّفَة وفي آخره حاء مُهْمَلة؛ فهو ابن زيد بن حَرَام _بمهملتين_ ابن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، قال ابن إسحاق: كان من سادات بني سَلِمة، وقال الذَّهبيُّ: عَقَبِيٌّ، وفي قولٍ: بَدريٌّ، استُشْهِد يوم أُحُدٍ هو وابنه خلَّادٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: ذكر ابن مَنْدَةَ من حديث كعب بن مالك: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «مَن سيِّدكم يا بني سَلِمة؟» قالوا: جَدُّ بن قيس، فذكر الحديث، فقال: «سيِّدكم بشر بن البراء بن معرور» _بسكون العين المُهْمَلة_ ابن صخر، يجتمع مع عَمْرو بن الجموح في صخر.
          قُلْت: اختُلِف في وصله وإرساله على الزُّهْريِّ، على أنَّهُ يمكن التوفيق بأن تُحمل قصَّة بشر على أنَّها كانت بعد قتل عَمْرو بن الجموح، ومات بشر المذكور بعد خيبر، أكل مع النَّبِيِّ صلعم من الشاة المسمومة، وكان قد شهد العقبة وبدرًا، ذكره ابن إسحاق.