عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركا
  
              

          ░11▒ (ص) بابُ إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا.
          (ش) أي: هذا بابٌ يذكر فيه إذا أُسِرَ أخو الرجلِ أو عَمُّه هل يفادِي؟ مِن فاداه يفاديه مفاداة؛ إذا أعطى فداءه وأنقذه، وقيل: المفاداة أن يُفتكَّ الأسير بأسيرٍ مثله، وفي «المُغرِب»: فداه مِن الأسر فداءً؛ استنقذه منه بمالٍ، والفدية اسمُ ذلك المال، والمفاداة بين / اثنين، وقال المُبرِّد: المفاداة أن تدفع رجلًا وتأخذ رجلًا، والفداء أن تشتريَه، وقيل: هما بمعنًى.
          قُلْت: (يفادَى) هنا بمعنى: أن يُعطيَ مالًا ويستنقذ الأسير.
          قوله: (إِذَا كَانَ) أي: أخوه أو عمُّه مشركًا مِن أهل دار الحرب، وإِنَّما قال البُخَاريُّ: (هل يفادَِى؟) بالاستفهام على سبيل الاستخبار، ولم يبيِّن حُكم المسألة، واقتصر على ذكر أخي الرجل وعمِّه مِن بين سائر ذَوي رحمه؛ وذلك لأنَّ ترك بيان حكم المسألة فلأجل الخلاف فيه على ما نبيِّنُه، وأَمَّا اقتصاره على الأخ والعمِّ؛ فلأنَّه استنبط مِن حديث الباب أنَّ الأخ والعمَّ لا يعتقان على مَن ملكهما، وكذلك ابن العمِّ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم قد ملك مِن عمِّه العَبَّاس ومِن ابن عمِّه عقيل بالغنيمة التي له فيها نصيب، وكذلك عليٌّ ☺ قد ملك مِن أخيه عَقيل وعمِّه العَبَّاس ولم يُعتقا عليه، وأَمَّا بيان الاختلاف فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه؛ فذهب مالكٌ إلى أنَّهُ لا يَعتق عليه إلَّا أهل الفرائض في كتاب الله تعالى؛ وهم: الولد ذكرًا كان أو أنثى، وولد الولد، وإن سفلوا، وأبوه وأجداده وجدَّاته مِن قِبَل الأب والأمِّ وإن بعدوا، وإخوته لأبوين أو لأب أو لأمٍّ، وبه قال الشَّافِعِيُّ إلَّا في الأخوة: فَإِنَّهُم لا يَعتقون، وحجَّته فيه: أنَّ عقيلًا كان أخا عليٍّ ☺ فلم يعتق عليه بما ملك مِن نفسه مِنَ الغنيمة منه، وعند الحَنَفيَّة: كلُّ مَن ملك ذا رَحِم مَحرَمٍ منه عتق عليه، وذو الرحِم المَحرَم: كلُّ شخصينِ يُدليانِ إلى أصلٍ واحد بغير واسطة؛ كالأخوين، أو أحدهما بواسطةٍ والآخر بواسطةٍ؛ كالعمِّ وابن العمِّ، ولا يعتق ذو رَحمٍ غير مَحرَم؛ كبني الأعمام والأخوال، وبني العمَّات والخالات، ولا مَحرم غير رحِم _المحرَّمات بالصِّهريَّة أو الرَّضاع_ إجماعًا، وبِقولِ الحَنَفيَّة قال أحمد، وعنه كقول الشَّافِعِيِّ، وفي «حاوي» الحنابلة: ومَن ملك ذا رحِم مَحرَم عتق عليه، وعنه: لا يَعتق إلَّا عمود النسب، وحجَّة الحَنَفيَّة في هذا ما رواه الأئِمَّة الأربعة مِن حديث سَمُرة بن جُنْدب قال أبو داود: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حدَّثنا حمَّاد بن سلمة عن قتادة عَنِ الحسن عن سَمُرة بن جُنْدب عَنِ النَّبِيِّ صلعم ...، وقال موسى في موضعٍ آخر: عن سَمُرة بن جُنْدب فيما يحسب حمَّاد، قال: قال رسول الله صلعم : «مَن ملك ذا رحِمٍ محرَم فهو حُرُّ»، وقال التِّرْمِذيُّ: حدَّثنا عبد الله بن معاوية الجُمَحِيُّ البَصْريُّ: حدَّثنا حمَّاد بن سلمة عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أنَّ رسول الله صلعم قال: «مَن ملك ذا [رحمٍ محرم فهو حُرٌّ»، وقال النَّسائيُّ: أخبرنا مُحَمَّد بن المُثَنَّى قال: حدَّثنا حَجَّاج...، وأبو داود قال: حدَّثنا حمَّاد عن قتادة عن الحسن عن سمُرة: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «مَن ملك ذا] محرمٍ فهو حُرٌّ»، وقال ابن ماجة: حدَّثنا عُقْبَة بن مُكْرَم وإسحاق بن منصور قالا: حدَّثنا مُحَمَّد بن بكر البُرسَانيُّ عن حمَّاد بن سلمة عن قتادة وعاصم عن الحسن عَن سَمُرة بن جُنْدب عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: «مَن ملك ذا رَحِمٍ مَحرم فهو حُرٌّ»، وقال بعضهم: أشار البُخَاريُّ بترجمة هذا الباب إلى تضعيف حديث سَمُرة هذا، واستنكره ابن المدينيِّ، ورجَّح التِّرْمِذيُّ إرساله، وقال البُخَاريُّ: لا يصحُّ، وقال أبو داود: تفرَّد به حمَّاد، وكان يشكُّ في وصله، وغيره يرويه عَن قتادة عَنِ الحسن.
          قوله: (وعن قتادة عن عمر) قوله: (منقطعًا) أخرج ذلك النَّسائيُّ.
          قُلْت: ما وجه دلالة هذه الترجمة على ضعف هذا الحديث، فما هذه الدلالة؟ هل هي لفظيَّة أو عقليَّة؟ والحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» مِن طريق أحْمَد ابن حَنْبَل به عن حمَّاد بن سلمة عن عاصمٍ الأحول وقتادة عن الحسن عن سَمُرة مرفوعًا، وسكت عنه، ثُمَّ أخرجه عن ضَمْرَة بن ربيعة عَن سفيان عن عبد الله بن دينارٍ عن ابن عُمَر مرفوعًا: «مَن ملك ذا رحم فهو حُرٌّ»، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح على شرط الشيخين، والمحفوظ عن سَمُرة بن جُنْدب، وصحَّحه أيضًا ابن حزمٍ وابن القَطَّان، وقال ابن حزم: هذا خبرٌ صحيحٌ تقوم به الحجَّة، كلُّ مَن رواه ثقات انتهى. ولئن سلَّمنا / ما قالوا، فما يقولون في حديث ضَمْرَة بن ربيعة عن سفيان الثَّوْريِّ وهذا فيه الكفاية في الاحتجاج؟!
          فَإِنْ قُلْتَ: قالوا: تفرَّد به ضَمْرَة.
          قُلْت: ليس انفراده به دليلًا على أنَّهُ غير محفوظ، ولا يوجب ذلك علَّة فيه؛ لأنَّه مِنَ الثقات المأمونين، لم يكن بالشام رجلٌ يشبهه، كذا قال أحْمَد ابن حَنْبَل، وقال ابن سعدٍ: كان ثقة مأمونًا لم يكن هناك أفضل منه، وقال ابن يونس: كان فقيه أهل فلسطين في زمانه، والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحًا، ولا يضرُّه تفرُّده.
          (ص) وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاس ☺ لِلنَّبِيِّ صلعم فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا.
          (ش) هذا التعليق جزءٌ مِن حديثٍ مضى في (كتاب الصلاة) في (باب القسمة وتعليق القنو في المسجد)، أخرجه هناك فقال: قال إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صُهيب عن أنسٍ قال: أتي النَّبِيُّ صلعم بمالٍ مِنَ البحرين... الحديث، وفيه: جاءه العَبَّاس فقال: يا رسول الله؛ أعطني فإنِّي فاديت نفسي وفاديت عَقيلًا... إلى آخره، وأخرجه البَيْهَقيُّ موصولًا، فقال: أخبرني أبو الطَّيِّب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله: حدَّثنا مُحَمَّد بن عصام: حدَّثنا حفص بن عبد الله: حدَّثنا إبراهيم بن طهمان... إلى آخره، وعَبَّاس عمُّ النَّبِيِّ صلعم لمَّا أُسِر في وقعة بدر فادى نفسه بمئة أوقيَّة مِن ذَهبٍ، قاله ابن إسحاق، وقال ابن كثير في «تفسيره»: وهذه المئة عَن نفسه وعن ابنَي أخيه عَقيل ونوفل، وروى هشام بن الكلبيِّ عَن أبيه عن ابن عَبَّاسٍ قال: فدى العَبَّاس نفسه بأربعة آلاف درهم، وكانوا يأخذون مِن كلِّ واحدٍ مِنَ الأسرى أربعين أوقيَّة، فقال رسول الله صلعم : أضعفوها على العَبَّاس، فقال: تركتني فقيرًا ما عشت أسأل الله، قال رسول الله صلعم : «فأين المال الذي تركته عند أمِّ الفضل؟»، وذكره فقال: يا ابن أخي مَن أعلمك؟ فوالله ما كان عندنا ثالث، فقال: «أخبرني الله» فقال: أشهد أنَّك لصادق، وما علمت أنَّك رسول الله قبل اليوم، وأسلم وأمر ابنَي أخيه، فأسلما، قال ابن عَبَّاس: وفيه نزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسارى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية[الأنفال:70] وقال ابن إسحاق: عن يزيد بن رومان عن عروة عَنِ الزُّهْريِّ عن جماعة سمَّاهم قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله صلعم في فداء أسراهم، ففدى كلُّ قومٍ أسيرهم بما رَضوا، وقال العَبَّاس: يا رسول الله؛ قد كنت مسلمًا، فقال رسول الله صلعم : «الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فالله يجزيك، وأَمَّا ظاهرك فقد كان علينا، فافتدِ نفسَك وابنَي أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطَّلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطَّلب، وحليفك عُتْبَةُ بن عَمْرو أخي بني الحارث بن فِهْر» قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: «فأين المالُ الذي دفنته أنت وأمُّ الفضل؟» قال: فقلت لها: إن أُصِبتُ في سفري هذا؛ فهذا المال الذي دفنتُه لِبَنِيَّ الفضل وعبد الله وقُثَم، قال: والله إنِّي لأعلم أنَّك رسول الله، إنَّ هذا شيء ما علمه أحدٌ غيري وغير أمِّ الفضل، فاحسُب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية مِن مالٍ كان معي، فقال رسول الله صلعم : لا، ذاك شيء أعطانا الله منك، ففدى نفسه وابنَي أخويه وحليفه، فأنزل الله ╡ فيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسارى...} الآية، قال العَبَّاس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقيَّة في الإسلام عشرين عبدًا، كلُّهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو مِن مغفرة الله ╡ .
          واختلفوا في الذي أسر العَبَّاس؛ فقيل: مَلَك مِنَ الملائكة، وقيل: أسره أبو اليَسَر كعب بن عَمْرو أخو بني سلمة الأنصاريُّ، وكان العَبَّاس جسيمًا، وأبو اليسر مجموعًا، فقال له النَّبِيُّ صلعم : «كيف أسرت العَبَّاس؟» فقال: أعانني عليه رجلٌ / ما رأيته قطُّ، فقال رسول الله صلعم : «أعانك عليه ملك كريم»، وقيل أسره عُبيد الله بن أوس الأنصاريُّ مِن بني ظفر، وسمِّي بمقرن، قاله الواقديُّ، وإِنَّما سمي به؛ لأنه قرن بين العَبَّاس ونوفل وعقيل بجبل، فلما رآهم رسول الله صلعم ؛ قال: «لقد أعانك عليهم ملك كريم»، وقال ابن إسحاق: ولمَّا أُسِرَ العَبَّاس بات رسول الله صلعم ساهرًا تلك الليلة، فقيل له: ما لك لا تنام؟ فقال: «يمنعني أمر العَبَّاس» وكان مُوثَقًا بالقِدِّ، فأطلقوه فنام رسول الله صلعم .
          (ص) وَكَانَ عَلِيٌّ ☺ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ ومِن عَمِّهِ عَبَّاس ☺ .
          (ش) هذا مِن كلام البُخَاريِّ ذكره في معرض الاستدلال على أنَّهُ لا يعتق الأخ ولا العمُّ بمجرَّد الِملك؛ إذ لو عتقا لعتق العَبَّاس وعقيل على عليٍّ ☺ في حصته مِنَ الغنيمة.
          وأجيب: بأنَّ الكافر لا يُمَلَّك بالغنيمة ابتداءً، بل يتخيَّر فيه بين القتل والاسترقاق والفداء، فلا يلزم العتق بمجرَّد الغنيمة.