عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون
  
              

          ░15▒ (ص) باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ».
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذِكر قوله صلعم : العبيد... إلى آخره، ولفظ هذه الترجمة معنى حديث أبي ذرٍّ، رواه ابن مَندة بلفظ: «إنَّهم إخوانكم، فمن لاءَمَكم منهم فأطعموهم مِمَّا تأكلون، واكسوهم مِمَّا تلبَسون»، وأخرجه أبو داود، قال: حدَّثنا مُحَمَّد بن عَمْرو الرازيُّ قال: حدَّثنا جرير عن منصور عن مجاهدٍ عن مورِّق عن أبي ذرٍّ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : «مَنْ لَاءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُ مِمَّا تَكْسُونَ وَمَنْ لا يُلَائِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ ╡ »، وأخرج مسلمٌ في آخر «صحيحه» حديثًا طويلًا عن أبي اليَّسر كعب بن عَمْرو في (باب سترة النَّبِيِّ صلعم ) وفيه: وهو يقول؛ أي: النَّبِيُّ صلعم : «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ».
          (ص) وقَوْلِهِ تعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء:36].
          (ش) (وَقَولِهِ) بالجر عطفٌ على قوله: (في قوله: باب قولِ النَّبِيِّ صلعم ) هذه الآية في (سورة النِّساء) كذا هي إلى آخرها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ مِن قوله: <وقول الله>: {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {مُخْتَالًا فَخُورًا} ففيها يأمر الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، فَإِنَّهُ الخالق الرازق المُنعِم المتفضِّل على خلقه في جميع الأحوال، ثُمَّ أوصى بالإحسان إلى الوالدين بقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} لأنَّه تعالى جعلهما سببًا لخروجك مِنَ العدم إلى الوجود، ثُمَّ عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات مِن الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقةٌ وصلةٌ».
          ثُمَّ قال: ({وَالْيَتَامَى}) لأنَّهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومَن ينفق عليهم.
          ثُمَّ قال: ({وَالْمَسَاكِينِ}) وهم المحاويج مِن ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله بمساعدتهم بما تتمُّ به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم.
          ثُمَّ قال: ({وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}) قال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ ☻: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني: الذي بينك وبينه قرابةٌ، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمَة ومجاهد وميمون بن مِهْرَان والضحَّاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حَيَّان وقتادة، وقال أبو إسحاق عن نَوفٍ البِكاليِّ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني: المسلم، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني: اليهوديَّ والنصرانيَّ، رواه ابن جَرير وابن أبي حاتم، وقال جابر الجُعْفِيُّ عَن الشعبيِّ عن عليٍّ وابن مسعود: {الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} المرأة، وقال مجاهد: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني: الرفيق في السفر.
          ثُمَّ قال: ({وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}) قال الثَّوْريُّ عن جابر الجُعْفِيِّ عن الشعبيِّ عن عليٍّ وابن مسعودٍ قالا: هي المرأة، قال ابن أبي حاتم: كذا رُوِيَ عن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وإبراهيم النَّخَعِيِّ والحسن وسعيد بن جُبَير في إحدى الروايات، وقال ابن عَبَّاس ومجاهد وعِكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جُبَير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسُك في الحضَر ورفيقُك في السفر.
          ثُمَّ قال: ({وَابْنَ السَّبِيلِ}) وعن ابن عَبَّاس وجماعة: / هو الضيف، وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحَّاك: هو الذي يمرُّ عليك مجتازًا في السفر.
          ثُمَّ قال: ({وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}) هذا وصية بالأرقَّاء؛ لأنَّ الرقيق ضعيف الجثَّة أسيرٌ في أيدي الناس، ولهذا ثبت أنَّ رسول الله صلعم جعل يوصي أُمَّتَه في مرض الموت يقول: «الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم»، فجعل يردِّدها حَتَّى ما يفيض بها لسانه، وهذا كانَ مرادَ البُخَاريِّ بذكره هذه الآية الكريمة، وروى مسلمٌ مِن حديث عبد الله بن عَمْرو أنَّهُ قال لقَهرمانٍ له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم إن رسول الله صلعم قال: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبسَ عمَّن يملك قوتهم».
          قوله: {إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا} أي: في نفسه معجبًا متكبِّرًا {فَخُورًا} على الناس، يرى أنَّهُ خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير وعند الناس بغيض.
          (ص) قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: {ذِي الْقُرْبَى} الْقَرِيبُ، وَ{الْجُنُبِ} الْغَرِيبُ، {الْجَارُ الْجُنُبُ} يَعْنِي: الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ.
          (ش) (أَبُو عَبْدِ اللهِ) هو البُخَاريُّ نفسه، هذا الذي فسَّره هو تفسير أبي عُبَيدة في كتاب «المجاز».