عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب أم الولد
  
              

          ░8▒ (ص) باب أُمِّ الْوَلَدِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم أمِّ الولد، ولم يذكر الحكم ما هو، فكأنَّه تركه للخلاف فيه، قال أبو عُمَر: اختلف السلف والخلف مِنَ العلماء في عتق أمِّ الولد وفي جواز بيعها، فالثابت عن عمر ☺ عدم جواز بيعها، ورُوي مثل ذلك عَن عثمان وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أكثر التَّابِعينَ؛ منهم: الحسن وعطاء ومجاهد وسالم وابن شهاب وإبراهيم، وإلى ذلك ذهب مالكٌ والثَّوْريُّ والأوزاعيُّ والليث وأبو حنيفة والشَّافِعِيُّ، في أكثر كُتُبه، وقد أجاز بيعها في بعض كتبه، وقال المزنيُّ: قطع في أربعة عشر موضعًا مِن كتبه بألَّا تباع، وهو الصحيح مِن مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وهو قول أبي يوسف ومُحَمَّد وزفر والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأبي عُبَيد وأبي ثور، وكان أبو بكرٍ الصديق وعليُّ بن أبي طالب وابن عَبَّاسٍ وابن الزُّبَير وجابر وأبو سعيد الخُدْريُّ، يجيزون بيع أمِّ الولد، وبه قال داود، وقال جابر وأبو سعيد: «كنَّا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلعم »، وذكر عبد الرَّزَّاق: أخبرنا ابن جُرَيْج: [أخبرني أبو الزُّبَير سمع جابرًا يقول: «كنَّا نبيعُ أمَّهات الأولاد ورسولُ الله صلعم فينا، لا يرى بذلك بأسًا» وأخبرنا ابن جُرَيْج]: أخبرنا عبد الرَّحْمَن بن الوليد أنَّ أبا إسحاق الهمدانيَّ أخبره: أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق كان يبيع أمَّهات الأولاد في إمارته، وعمرُُ في نصف إمارته، وقال ابن مسعود: يعتق في نصيب ولدها، وقد رُوِيَ ذلك عن ابن عَبَّاسٍ وابن الزُّبَير قال: وقد رُوِيَ عنِ النَّبِيِّ صلعم في مارية سُرِّيته لمَّا ولدت إبراهيم ◙ قال: «أعتَقَها ولدُها» مِن وجه ليس بالقويِّ، ولا يُثبِتُه أهل الحديث، وكذا حديث ابن عَبَّاس عَنِ النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ قال: «أَيُّما أَمَةٍ ولدت مِن سيِّدها فَإِنَّها حُرَّةٌ إذا مات سيِّدها» فقيل له: عمَّن هذا؟ قال: (عَنِ القرآن) قال الله ╡ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[النساء:59] وكان عمر ☺ مِن أُولي الأمر، وقد قال: أعتقها ولدها ولو كان سِقطًا.
          (ص) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا».
          (ش) هذا التعليق مَرَّ / موصولًا مطوَّلًا في (كتاب الإيمان) في (باب سؤال جبريل النَّبِيَّ صلعم عَنِ الإيمان)، وتَقَدَّمَ الكلام فيه هناك.
          وجهُ إيراد هذا هنا هو أنَّ مَن استدل به على جواز بيع أمَّهات الأولاد، ومنهم مَن منع ذلك، فكأنَّ البُخَاريَّ أراد بذكره هذا الإشارة إلى ذلك، والذي عليه الجمهور أنَّهُ لا يدلُّ على الجواز ولا على المنع، وقال النَّوَوِيُّ في «شرح مسلم»: وقد استدلَّ إمامان مِن كبار العلماء على ذلك، استدلَّ أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجبٌ منهما، وقد أُنْكِر عليهما فَإِنَّهُ ليس كلُّ ما أخبر صلعم بكونه مِن علامات الساعة يكون محرَّمًا أو مذمومًا كتطاول الرِّعاء في البنيان، وفشوِّ المال، وكون خمسين امرأة لهنَّ قيِّمٌ واحد ليس بحرامٍ بلا شكٍّ، وإِنَّما هذه علامات، والعلامة لا يشترط شيءٌ مِن ذلك، بل تكون بالخير والشرِّ والمباح والمحرَّم والواجب وغيره انتهى.
          قُلْت: وجه استدلال المجيز أنَّ ظاهر قوله: (رَبَّهَا) أنَّ المراد به سيِّدها؛ لأنَّ ولدها مِن سيِّدها يتنزَّل منزلة سيِّدها لمصير مآل الإنسان إلى ولده غالبًا، ووجه استدلال المانع أنَّ هذا إخبار عَن غلبة الجهل في آخر الزمان حَتَّى تُباع أمَّهات الأولاد، فيكثر ترداد الأَمَة في الأيدي حَتَّى يشتريها ولدها وهو لا يدري، فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمَّهات الأولاد، ولا يخفى تعسُّف الوجهين.