عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في العتق وفضله
  
              

          (ص) بابُ مَا جَاءَ فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِ اللهِ ╡ : {فَكَّ رَقَبَةً. أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:13-15]
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما جاء في أمر العتق، وفي بيان فضله.
          قوله: (وَقَولِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (فِي الْعِتْقِ).
          قوله: ({فَكَّ رَقَبَةً}) أوَّلُها قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكَّ رَقَبَةً} الضمير في {فَلَا اقْتَحَمَ} يرجع إلى {الْإِنسَانَ} في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} المراد منه: الوليد بن المغيرة، فَإِنَّهُ كان يقول: أهلكتُ مالًا كثيرًا في عداوة مُحَمَّدٍ صلعم ، فقال الله ╡ : {أَيَحْسَبُ} أي: أيظنُّ هذا {أَن لَّمْ يَرَهُ} أي: أن لم ير ما أنفقه {أَحَدٌ} مِنَ الناس؟ ثُمَّ ذكر الله النِّعَمَ ليَعتبرَ، فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:8-10] أي: سبيل الخير والشرِّ، قاله أكثر المفسِّرين، وقيل: الحقُّ والباطل، وقيل: الهدى / والضلالة، وقيل: الشقاوة والسعادة، و(النَّجد) المرتفع مِنَ الأرض، ثُمَّ قال: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11] أي: فلا دخل هذا الإنسانُ العقبةَ، و(الاقتحام) الدخول في الأمر الشديد، و(العقبة) جبلٌ في جهنَّم، وقيل: هي عقبةٌ دون الحشر، وقيل: سبعون دركةً مِن جهنَّم، وقيل: الصراط، وقيل: نارٌ دون الحشر، قال الحسن: عقبةٌ _واللهِ_ شديدةٌ.
          قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ [مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12] أي: ما اقتحام العقبة؟ قال سفيان بن عُيَيْنَةَ: كلُّ شيءٍ قال: {وَمَا أَدْرَاكَ}] فَإِنَّهُ أخبره به، وما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لم يُخْبِرْه به.
          قوله: ({فَكَّ رَقَبَةً}) قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو والكسائيُّ: {فَكَّ} بفتح الكاف، و{أَطْعَمَ} بفتح الميم على الفعل، والباقون بالإضافة على الاسم؛ لأنَّه تفسيرُ قولِه: {وَمَا أَدْرَاكَ} معناه: خلَّص رقبةً مِنَ الأسر على قراءة ابن كثير، وعلى قراءة غيره: خلاص الرقبة؛ أي: الفكُّ هو خلاص الرقبة، وإِنَّما ذكر لفظة: (الرقبة) دون سائر الأعضاء، مع أنَّ العتق يتناول الجميع؛ لأنَّ حكم السيِّد عليه كحبلٍ في رقبة العبد، وكالغُلِّ المانع له مِنَ الخروج، فإذا عتق فكأنَّه أُطلِقت رقبته مِن ذلك.
          قوله: ({أَوْ أطْعَمَ فِي يَوْمٍ}) والمرادُ مِنَ اليوم هنا مطلقُ الزمان، ليلًا كان أو نهارًا.
          قوله: ({ذِي مَسْغَبَةٍ}) أي: مَجاعةٍ، يقال: سَغَب يَسغَب سُغُوبًا؛ إذا جاع.
          قوله: ({يَتِيمًا}) منصوبٌ بقوله: {أَطْعَمَ} أو بـ{إِطْعَامٌ} والمصدر أيضًا يعمل عملَ فعله.
          قوله: ({ذَا مَقْرَبَةٍ}) صفةٌ لـ{يتيمًا} أي: ذا قرابةٍ، يقال: زيدٌ ذو قرابتي وذو مَقرَبَتي، و(زيدٌ قرابتي) قبيحٌ؛ لأنَّ (القرابة) مصدرٌ.
          قوله: {أَوْ مِسْكِينًا}) عطفٌ على {يتيمًا} و({ذَا مَتْرَبَةٍ}) صفته؛ أي: ذا فقرٍ، قد لُصِق بالتراب مِنَ الفقر، وقيل: (المتربة) مِنَ التُّربة هنا؛ وهي شدَّة الحال.