عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا استأجر أرضا فمات أحدهما
  
              

          ░22▒ (ص) بابٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه إذا استأجر أحدٌ أرضًا فمات أحدهما؛ أي: أحد المتواجرين، وليس هو بإضمار قبل الذكر لأنَّ لفظ: (اسْتَأْجَرَ) يدلُّ على المؤجِّر، وجواب (إذا) محذوفٌ تقديره: هل ينفسخ أم لا؟ وإِنَّما لم يجزم بالجواب للاختلاف فيه.
          (ص) وقال ابنُ سِيرينَ: لَيْسَ لأِهْلِهِ أنْ يُخْرِجُوهُ إلَى تَمامِ الأجَلِ.
          (ش) أي: قال مُحَمَّد (ابْنُ سِيرِين: لَيْسَ لأِهْلِهِ) أي: لأهل الميِّت، (أنْ يُخْرِجُوهُ) أي: المستأجر (إلَى تَمامِ الأجَلِ) أي: المدَّة التي وقع العقد عليها، قال الكَرْمَانِيُّ: ليس لأهله: أي: لورثته أن يخرجوه؛ أي: عقد الاستئجار؛ أي: يتصرَّفوا في منافع المستأجَر.
          قُلْت: قول الكَرْمَانِيِّ: «أي: عقد الاستئجار» بيان لعودِ الضمير المنصوب في (أن يخرجوه)، إلى عقد الاستئجار، وهذا لا معنى له، بل الضمير يعود إلى المستأجر كما ذكرنا، ولكن لم يمض ذكر المستأجر، فكيف يعود إليه؟ وكذلك الضمير في (أهله) ليس مرجعه مذكورًا، ففيهما إضمارٌ قبل الذكر، ولا يجوز أن يقال: مَرجِع الضميرين يُفهَم مِن لفظ الترجمة؛ لأنَّ الترجمة وُضِعَت بعد قول ابن سِيرِين هذا بمدَّة طويلة، وليس كلُّه كلامًا موضوعًا على نسق واحد حَتَّى يصحَّ هذا، ولكنَّ الوجه في هذا أن يقال: إنَّ مرجع الضميرين محذوفٌ، والقرينة تدلُّ عليه، فهو في حكم الملفوظ.
          وأصلُ الكلام في أصلِ الوضع هكذا: سُئِل مُحَمَّد بن سِيرِين في رجلٍ استأجر مِن رجلٍ أرضًا فمات أحدهما، هل لورثة الميِّت أن يخرجوا يد المستأجر مِن تلك الأرض أم لا؟ فأجاب: بقوله: ليس لأهله؛ أي: لأهل الميِّت أن يُخرجوا المستأجر إلى تمام الأجل؛ أي: أجل الإجارة؛ أي: المدَّة التي وقع عليها العقد، وقال بعضهم: الجمهور على عدم الفسخ، وذهب الكوفيُّون والليث إلى الفسخ، واحتجُّوا بأنَّ الوارث مَلَكَ الرقبة والمنفعةُ تبعٌ لها فارتفعت يد المستأجر عنها بموت الذي آجره، وتُعُقِّب بأنَّ المنفعة قد تنفكُّ عَن الرقبة، كما يجوز بيع مسلوب / المنفعة؛ فحينئذٍ فملك المنفعة باقٍ للمستأجر بمقتضى العقد، وقد اتَّفقوا على أنَّ الإجارة لا تنفسخ بموت ناظر الوقف، فكذلك هنا انتهى.
          قُلْت: الذي يتركه الميِّت ينتقل بالموت إلى الوارث، ثُمَّ يترتَّب الحكم على هذا عندَ موت المؤجِّر أو موت المستأجر، أَمَّا إذا مات المؤجِّر فقد انتقل رقبة الدار إلى الوارث والمستحق مِنَ المنافع التي حدثت على ملكه، قد فات بموته فبطلت الإجارة لفوات المعقود عليه؛ لأنَّ بعد موته تحدث المنفعة على مُلك الوارث، فإذا كانت المنفعة على مُلك الوارث، كيف يقول هذا القائل: (فمُلك المنفعة باقٍ للمستأجر بمقتضى العقد)، ومقتضى العقد هو قيام الإجارة، وقيام الإجارة بالمتؤاجرين؟ فإذا مات أحدهما زال ذلك الاقتضاء، وأَمَّا إذا مات المستأجر فلو بقي العقد لبقي على أن يخلفه الوارث، وذا لا يتصوَّر؛ لأنَّ المنفعة الموجودة في حياته تلاشت، فكيف يورث المعدوم؟ والتي تحدث ليست بمملوكةٍ له ليخلفه الوارث فيها؛ إذ الملك لا يسبق الوجود، فإذا ثبت انتفاء الإرث تعيَّن بطلان العقد.
          وقوله: (المنفعة قد تنفكُّ عنِ الرقبة كما يجوز بيع مسلوب المنفعة) كلامٌ واهٍ جدًّا؛ لأنَّ المنفعة عرض، والعرض كيف يقوم بذاته، وتنظيره ببيع مسلوب المنفعة غير صحيحٍ؛ لأنَّ مسلوب المنفعة لم يكن فيها منفعةٌ أصلًا وقت البيع حَتَّى يقال: كانت فيه منفعة، ثُمَّ انفكَّت عنه، وقامت بذاتها، وفي الإجارة المنفعة موجودةٌ وقت العقد؛ لأنَّها تحدث ساعةً فساعة، ولكن قيامها بالعين وحين انتقلت العين إلى مُلك الوارث انتقلت المنفعة معها لقيامها معها، وتنظيرها بالمسألة الاتفاقيَّة أيضًا غير صحيح؛ لأنَّ الناظر لا يرجع إليه العقد، والعاقد مَن وقع المستحقُّ عليه.
          فَإِنْ قُلْتَ: الموكَل إذا مات ينفسخ العقد، مع أنَّهُ غير عاقد؟
          قُلْت: نحن نقول: كلمَّا مات العاقد لنفسه ينفسخ، ولم نلتزم بأن كلَّ ما انفسخ يكون بموت العاقد؛ لأنَّ العكس غير لازمٍ في مثله.
          (ص) وقال الحَكَمُ والحَسَنُ وإيَاسُ بنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضِي الإجَارَةُ إلَى أجَلِهَا.
          (ش) (الحَكَمُ) بفتحتين، هو ابن عُتَيْبة، أحد الفقهاء الكبار بالكوفة، وهو ممَّن روى عنه الإمام أبو حنيفة ☺ ، و(الحَسَنُ) هو البَصْريُّ، و(إيَاسُ بنُ مُعَاوِيَةَ) ابن قُرَّةَ المزنيُّ.
          قوله: (تُمْضَِي الإجَارَةَُ) على صيغة بناء الفاعل، وعلى صيغة بناء المفعول.
          قوله: (إِلَى أَجَلِهَا) أي: إلى مُدَّة الإجارة، والحاصل أنَّ الإجارة لا تنفسخ عندهم بموتِ أحد المتؤاجرين، ووصل ابن أبي شَيْبَةَ هذا المعلَّق مِن طريق حُميد عَن الحسن وإيَّاس بن معاوية نحوه، وأيضًا مِن طريق أيُّوب عَن ابن سِيرِين نحوه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ☻: أَعْطَى النَّبِيُّ صلعم خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ☻، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صلعم .
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّهُ صلعم لمَّا أعطى خيبر بالشطر؛ استمرَّ الأمر عليه في حياته وبعده أيضًا، فدلَّ على أنَّ عقد الإجارة لا ينفسخ بموتِ أحد المُتَآجِرَين.
          وهذا تعليقٌ أدرج فيه البُخَاريُّ كلامه، والتعليق أخرجه مسلمٌ في «صحيحه» على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذا حجَّةُ مَن يدَّعي عدم الفسخ بالموت، ولكن هذا لا يفيدهم في الاستدلال؛ ولهذا قال ابن التين: قولُ ابن عمر ☻ ليس مِمَّا بُوِّب عليه؛ لأنَّ خيبر مساقاة _وهو الراوي_ والمساقاة سُنَّة على حيالها انتهى.
          قُلْت: قال أصحابنا مِن جهة أبي حنيفة: إنَّ قضية خيبر لم تكن بطريق المزارعة والمساقاة، بل كانت بطريق الخراج على وجه المنِّ عليهم والصلح؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم ملكها غنيمةً، فلو كان صلعم أخذ كلَّها؛ جاز، وتركها في أيديهم بشطر ما يخرج منها فضلًا، وكان ذلك خراج مقاسمة، وهو جائزٌ كخراج التوظيف، ولا نزاع فيه، وإِنَّما النزاع في جواز المزارعة والمعاملة، وخَراج المقاسمة أن يوظِّف الإمام في الخارج شيئًا مقدَّرًا عشرًا أو ثلثًا أو ربعًا، ويترك الأراضي على ملكهم منًّا عليهم، / فإن لم تخرج الأرض شيئًا فلا شيء عليهم، ولم يُنقَل عَن أحدٍ مِن الرواة أنَّهُ تصرَّف في رقابهم أو رقاب أولادهم، وقال أبو بكر الرازيُّ في «شرحه لمختصر الطَّحَاويِّ»: ومِمَّا يدل على أنَّ ما شرط مِن نصف الثمر والزرع كان على وجه الخراج أنَّهُ لم يُروَ في شيء مِنَ الأخبار أنَّ النَّبِيَّ صلعم أخذ منهم الجزية [إلى أن مات، ولا أبو بكر ولا عمر ☻، إلى أن أجلاهم، ولو لم يكن ذلك لأخذ منهم الجزية] حين نزلت آية الجزية، وسنذكر بقيَّة الكلام مِنَ الخلاف في هذا الباب في (باب المزارعة) إن شاء الله تعالى.