عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل
  
              

          ░6▒ (ص) بابُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ لَهُ الْعَمَلَ؛ لِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[القصص:27-28].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مَن استأجر أجيرًا فبيَّن له الأجل؛ أي: المدَّة ولم يبيِّن له؛ أي: للأجير العمل؛ يعني: لم يبيِّن أيَّ عمل يعمله له، وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب إذا استأجره > وجواب (من) محذوفٌ، تقديره: هل يصحُّ ذلك أم لا؟ وميل البُخَاريِّ إلى الصحَّة، فلذلك ذكر هذه الآية في معرِض الاحتجاج؛ حيث قال: لقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ} الآية[القصص:27] وجه الدلالة منه أنَّهُ لم يقع في سياق القصَّة المذكورة بيانُ العمل، وإِنَّما فيه أنَّ موسى آجر نفسه مِن والد المرأتين.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف يقول: (لم يقع في سياق القصَّة بيان العمل) وقد قال شُعَيْب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ
          قُلْت: قال الزَّمَخْشَريُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف يصحُّ أن ينكحه إحدى ابنتيه مِن غير تمييز؟ قُلْت: لم يكن ذلك عقد النكاح، ولكن مواعدةٌ ومواضَعةُ أمرٍ قد عزم عليه، ولو كان عقدًا لقال: قد أنكحتك، ولم يقل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} انتهى.
          قُلْت: حاصله أنَّ شعيبًا، ◙ استأجر موسى، لم يبيِّن له العمل أوَّلًا، ولكنَّه بيَّن له الأجل، فدلَّ ذلك أنَّ الإجارة إذا بُيِّن فيها المدَّة ولم يبيَّن العمل جائزةٌ، لكنَّ هذا في موضع يكون نفس العمل معلومًا بنفسِ العقد؛ [كاستئجار العبد لأجل الخدمة، وأَمَّا إذا لم يكن نفس العمل معلومًا بنفس العقد] فلا يجوز إلَّا ببيان العمل؛ لأنَّ الجهالة فيه تُفضي إلى المنازعة، وقال المُهَلَّب: ليس في الآية دليلٌ على جهالة العمل في الإجارة؛ لأنَّ ذلك كان معلومًا بينهم مِن سقي وحرثٍ ورعي واحتطاب، وما شاكل ذلك مِن أعمال البادية ومهنة أهلها فهذا متعارفٌ، وإن لم يبيَّن له أشخاص الأعمال، وقد عرَّفه المدَّة وسمَّاها له انتهى، وأجيبَ بأنَّ هذا ظَنَّ أنَّ البُخَاريَّ أجاز أن يكون العمل مجهولًا، وليس كما ظنَّ، إِنَّما أراد البُخَاريُّ أنَّ التنصيص على العمل باللفظ غير مشترطٍ، وأنَّ المتَّبَع المقاصد لا الألفاظ، فتكفي دلالةُ العَوائد عليها.
          قُلْت: يؤيِّد هذا ما رواه ابن ماجة مِن حديث عُتْبَة بن النُّدَّر قال: كنَّا عند رسول الله صلعم فقال: «إنَّ موسى ◙ آجَرَ نفسه ثمان سنين أو عشرًا على عفَّة فرجِه وطعام بطنه» انتهى، وليس فيه بيانُ العمل مِن قِبَل موسى ◙ ، و(عُتْبة) بِضَمِّ العين المُهْمَلة وسكون التاء المُثَنَّاة مِن فوق وفتح الباء المُوَحَّدة، و(النُّدَّر) بِضَمِّ النون وتشديد الدال المُهْمَلة، وقال الذهبيُّ: عُتْبَةُ بن النُّدَّر السلميُّ، صحابيُّ يقال: هو عُتْبَةُ بن عبدٍ السلميُّ، وليس بشيءٍ، روى عنه عليُّ بن رَبَاح وخالد بن مَعدان.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف حكم النكاح على أعمال البدن؟
          قُلْت: لا يجوز عند أهل المدينة؛ لأنَّه غررٌ، وما وقع مِنَ النكاح على مثل هذا الصداق لا يؤمر به اليوم؛ لظهور الغَرَر في طول المدَّة، وهو خصوصٌ لموسى ◙ عند أكثر العلماء؛ لأنَّه قال: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ولم يعيِّنها، وهذا لا يجوز إلَّا بالتعيين، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالكٌ: إذا تزوَّجها على أن يؤجرها نفسه سنة أو أكثر؛ يُفسَخُ النكاح إن لم يكن دخل بها، فإن دخل ثبت النكاح بمهر المثل، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حُرًّا فلها / مهر مثلها، وإن كان عبدًا فلها خدمة سنة، وبه قال أحمد في رواية، وقال مُحَمَّد: يجب عليه قيمة الخدمة سنة؛ لأنَّها متقوِّمة، وقال الشَّافِعِيُّ: النكاح جائزٌ على خدمته إذا كان وقتًا معلومًا، ويجب عليه عين الخدمة سنة، وكذلك الخلاف إذا تزوَّجها على تعليم القرآن.
          ثُمَّ الكلام في تفسير الآيات الكريمة:
          قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} أي: أريد أن أزوِّجَكَ {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} نفسَكَ مُدَّة {ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[القصص:27] أي: على أن تكون أجيرًا لي ثمانِ سنين، مِن أجرته؛ إذا كنتَ له أجيرًا؛ كقولك: أَبَوْتُهُ؛ إذا كنت له أبًا، و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ظرفه، ويجوز أن يكون مِن آجرته كذا؛ إذا أثبتُّه إيَّاه، ومنه تعزية رسول الله صلعم : «آجركم الله ورحمكم»، و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} مفعول به؛ أي: رعيه ثماني حِجَج.
          وقال الزَّمَخْشَريُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف جاز أن يُمْهِرَهَا إجارة نفسه في رعيه الغنم، ولا بُدَّ مِن تسليم ما هو مال؟ أَلَا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوَّج امرأة بأن يخدمها سنة؟ وجوَّز أن يتزوَّجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة؛ لأنَّه في الأَوَّل سلَّم نفسه، وليس بمالٍ، وفي الثاني هو مسلِّم مالًا، وهو العبد أو الدار؛ قُلْت: الأمر على مذهب أبي حنيفة كما ذكرتَ، وأَمَّا الشَّافِعِيُّ فقد جوَّز التزويج على الإجارة ببعض الأعمال والخدمة، إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرًا معلومًا، ولعلَّ ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، ويجوز أن يكون المهر شيئًا آخر، وإِنَّما أراد أن يكونَ رعي غنمه هذه المدَّة، وأراد أن ينكحه ابنته، فذكر له المرادين، وعلَّق الإنكاح بالرعية على معنى: أنِّي أفعل هذا إذا فعلتَ ذلك، على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة، ويجوز أن يستأجره لرعي غنمه ثماني سنين بمبلغٍ معلومٍ ويوفيِّه إيَّاه، ثُمَّ ينكحه ابنته به، ويجعل قوله: على أن تأجرني ثماني حِجَج، عبارة عما جرى بينهما فَإِنْ أَتْمَمْتَ عمل عَشْرٍ فَمِنْ عِندِكَ، فإتمامه مِن عندك، والمعنى: فهو مِن عندك لا مِن عندي؛ يعني: لا أُلزمك ولا أحتِّمه عليك، ولكن إن فعلته فهو منك تفضيلٌ وتبرُّع، وإلَّا فلا عليك، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} في هذه المدة فأكلِّفك ما يصعب عليك {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في حسن العِشرة والوفاء بالعهد، وهذا شرطٌ للأب، وليس بصداق، وقيل: صَداقٌ، والأَوَّل أظهر؛ لقوله: {تَأْجُرَنِي} ولم يقل: تأجرها، وإِنَّما قال: إن شاء الله، للاتكال على توفيقه ومعونته.
          قوله: ({قَالَ ذَلِكَ}) أي: قال موسى لشعيبٍ ♂ : {ذَلِكَ} مبتدأٌ، {بَيْنِي وَبَيْنِكَ} خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شُعَيْب، ثُمَّ قال موسى ◙ : {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ}[القصص:28] أي: أيَّ أجلٍ مِنَ الأجلين، أطولهما الذي هو العشر وأقصرهما الذي هو ثماني {قَضَيْتُ} أي: وفيتك إيَّاه وفرغتُ مِنَ العمل فيه {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: لا سبيل عليَّ، والمعنى: لا تعتد عليَّ بأن تلزمني أكثر منه.
          قوله: ({وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}) أي: على ما نقول مِنَ النكاح والأجر والإجارة {وَكِيلٌ} أي: حفيظ وشاهد، ولمَّا استعمل {وَكِيْلٌ} في موضع الشاهد عُدِّي بـ{عَلَى}، ورُوِيَ عَن ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: سأل جبريلَ ◙ : أيُّ الأجل قضى موسى؟ فقال: «أتمَّهما وأكملهما».
          (ص) تَأجُرُ فُلَانًا تُعْطِيهِ أَجْره، ومِنْهُ في التَّعْزِيَةِ آجَرَكَ الله.
          (ش) (تَأجُرُ) بِضَمِّ الجيم، والمقصود منه تفسير قوله تعالى: {تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[القصص:27]، وبهذا فسَّر أبو عُبيدة في «المجاز».
          قوله: (وَمِنْهُ) أي: ومِن هذا المعنى قولهم (في التَّعْزِيَةِ: آجَرَكَ الله) أي: يعطيك أجره، وهكذا فَسَّر أبو عُبَيدة أيضًا، وزاد: يأجرك؛ أي: يثيبك، وقيل: المعنى في قوله: {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} أن تكون لي أجيرًا، أو التقدير: على أن تأجرني نفسك، وقال الكَرْمَانِيُّ: في جواب مَن قال: ما الفائدة في عقد هذا الباب إذ لم يذكر فيه حديثًا؟ بأنَّ البُخَاريَّ كثيرًا ما يقصد بتراجم الأبواب بيان المسائل الفقهيَّة، فأراد ههنا بيان جواز مثل هذه الإجارة، واستدلَّ عليه بالآية، ثُمَّ قال: قال المُهَلَّب: ليس كما ترجم؛ لأنَّ العمل كان معلومًا عندهم انتهى.
          قُلْت: قد مرَّ / الكلام فيه عن قريبٍ.