عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب في استئجار الرجل الصالح
  
              

          ░1▒ (ص) بابٌ فِي اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ ما جاء في استئجار الرجل الصالح، وأشار به إلى قصَّة موسى مع ابنة شُعَيْب ♂ .
          (ص) وقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص:26].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفٌ على قوله: (فِي اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ) وفي رواية أبي ذَرٍّ: <وقال الله: {إِنَّ خَيْرَ} الآية>، وقال مقاتل بن سليمان في «تفسيره»: هذا قول صفوراء ابنة شُعَيْب ◙ ، وهي التي تزوَّجها موسى ◙ ، وكانت تَوْءَمة عَبْراء، ولدت صفوراء قبلها بنصف يوم، وكان بين المكان الذي سقى فيه الغنم وبين شُعَيْب ثلاثة أميالٍ، فمشى معها وأمرها أن تمشيَ خلفه وتدلَّه على الطريق؛ كراهيةَ أن ينظر إليها وهما على غير جادَّةٍ، فقال شُعَيْب لابنته: مِن أين علمتِ قوَّته وأمانته؟ فقالت: أزال الحجرَ عَن رأس البئر، وكان لا يطيقه إلَّا رجالٌ، وقيل: أربعون رجلًا، وذكرت أنَّهُ أمرَها أن تمشيَ خلفه؛ كراهة أن ينظرَ إليها، وسأوضِّح لك هذه القصَّة حَتَّى تقفَ على حقيقتها مَع اختصارٍ غير مخلٍّ:
          لمَّا قَتَل موسى القبطيَّ كما أخبر الله / في القرآن: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}[القصص:15] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:18] الأخبارَ، وأمر فرعون الذبَّاحين بقتل موسى، [فجاءه رجلٌ مِن شيعته يقال له: خِربيل، وكان قد آمن بإبراهيم ◙ ، وصدَّق موسى]، وكان ابنَ عمِّ فرعون، وقال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ}[القصص:20] أي: يتشاورون في قتلك، {فَاخْرُجْ} مِن هذه المدينة، [{إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَج} ولم يدرِ أين يذهب؟ فجاءه مَلَكٌ ودلَّه على الطريق]، فهداه إلى مَدْين، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيَّام، وقيل: عشرة، وكان يأكل مِن ورق الشجر، ويمشي حافيًا حَتَّى وَرَد ماء مَدْيَن، ونزل عند البئر، وإذا بجنبه {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}[القصص:23] أي: تمنعان أغنامهما عَن الاختلاط بأغنام الناس، فقال لهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاء}[القصص:23] لأنَّا ضعفاءُ لا نقدر على مزاحمتهم {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[القصص:25] تعنيان شعيبًا ◙ ، والمشهور عند الجمهور أنَّهُ شُعَيْبُ النَّبِيُّ ◙ ، وقيل: إنَّهُ ابن أخي شُعَيْب، ذكره أحمد في «تفسيره»، وذكر السهيليُّ: أنَّ شعيبًا هو يَثْرون بن صيفون بن مَدْين بن إبراهيم ◙ ، ويقال: شُعَيْب بن مَلكاين، وقيل: يَثْرُون ابن ابن أخي شُعَيْب، [وقيل: ابن عمِّ شُعَيْب، وقال وَهْب: اسم ابنته الكبرى صَفوراء، واسم الصغرى عَبوراء]، وقيل: اسم إحداهما شرفا، وقيل: لَيَّا، والمقصود: لَمَّا جاء إلى شُعَيْب بعد أن فعل ما ذكرنا؛ قصَّ عليه القصص، قال: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:26] وَ{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا}[القصص:23] وهي صفوراء: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص:26]، فقال لها شُعَيْب: وما عِلمُك بهذا؟ فأخبرت بالذي فعل موسى ◙ ، فعند ذلك قال شُعَيْبٌ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}... إلى آخر الآية[القصص:27]، وكان في شرعهم: يجوز تزويج المرأة على رَعْي الغنم، وأَمَّا في شرعنا ففيه خلافٌ مشهور، وقال موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} الآية[القصص:82].
          (ص) وَالْخَازِنِ الأَمِينِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ.
          (ش) هذا أيضًا مِنَ الترجمة، ولها جزآن؛ أحدهما: قوله: (وَالْخَازِنِ الأَمِينِ)، والآخر: قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ) وقد ذكر بعدُ لكلِّ واحدٍ حديثًا، فالحديث الأَوَّل للجزء الأَوَّل، والثاني للثاني، ومعنى (مَن لَمْ يَسْتَعْمِل) الإمام الذي لم يستعمِل الذي أرادَ العمل؛ لأنَّ الذي يريده يكون لحرصه، فلا يؤمَن عليه.