عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب
  
              

          ░16▒ (ص) بابُ مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيانِ حكم ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب، ولم يبيِّن الحكم اكتفاءً بما في الحديث على عادته في مثل ذلك.
          و(الرُّقْيَةِ) بِضَمِّ الراء وسكون القاف وفتح الياء آخر الحروف، مِن رقاه رَقْيًا ورُقية ورُقْيَا، فهو راقٍ؛ إذا عوَّذه، وصاحبه: رَقَّاء، وقال الزَّمَخْشَريُّ: وقد يقال: «استرقيتُه» بمعنى «رقيتُه»، قال: وعَن الكسائيِّ: «ارتَقَيْتُه» بهذا المعنى، وقال ابن درستويه: كلُّ كلامٍ استُشفِيَ به مِن وجعٍ أو خوفٍ أو شيطان أو سحر، فهو رقية، وفي معظمِ نسخ البُخَاريِّ وأكثرِها هكذا: <باب ما يُعطى في الرُّقية على أحياء العربِ بفاتحة الكتاب>، واعترض عليه بتقييده بـ(أحياء العرب) بأنَّ الحكم لا يختلف باختلاف المحالِّ ولا الأمكنة، وأجاب بعضهم عنه بأنَّه ترجم بالواقع، ولم يتعرَّض لنفي غيره.
          قُلْت: هذا جواب غير مقنعٍ؛ لأنَّه قيَّده بأحياء العرب، والقيد شرطٌ إذا انتفى ينتفي المشروط، وهذا القائل لم يكتفِ بهذا الجواب الذي لا يُرضَى به حَتَّى قال: (و«الأحياء» جمع «حيٍّ» والمراد به طائفةٌ من العرب مخصوصة)، وهذا الكلام أيضًا يُشعِر بالتقييد، والأصل في الباب الإطلاق، فافهم.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ».
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّ فيه جواز أخذ الأجرة لقراءة القرآن، وللتعليم أيضًا، وللرُّقْيَا به أيضًا؛ لعموم اللفظ، وهو يفسِّر أيضًا الإبهام الذي في الترجمة، فَإِنَّهُ ما بيَّن فيه حكم ما يُعطى في الرقية بفاتحة الكتاب، وهذا الذي علَّقه البُخَاريُّ طرف مِن حديثٍ وصله هو في (كتاب الطِّبِّ) في (باب الشرط في الرقية بقطيع مِنَ الغنم) : حدثني سيدان بن مضارب... إلى آخره، وفي آخره: «إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».
          وقد اختلف العلماء في أخذ الأجر على الرقية بالفاتحة، وفي أخذه على التعليم: فأجازه عطاءٌ وأبو قِلَابَة، وهو قول مالكٍ والشَّافِعِيِّ وأحمد وأبي ثور، ونقله القرطبيُّ عن أبي حنيفة [في الرقية، وهو قول إسحاق، وكره الزُّهْريُّ تعليم القرآن بالأجر، وقال أبو حنيفة] وأصحابه: لا يجوز أن يأخذ على تعليم القرآن، وقال الحاكم مِن أصحابنا في كتابه «الكافي»: ولا يجوز أن يستأجرَ رجل رجلًا أن يعلِّم ولده القرآن والفقه والفرائض، أو يؤمَّهم في رمضان، أو يؤذِّن، وفي «خلاصة الفتاوى» ناقلًا عَن الأصل: لا يجوز الاستئجار على الطاعات؛ كتعليم القرآن والفقه والأذان والتذكير والتدريس والحجِّ والغزو؛ يعني: لا يجب الأجر، وعند أهل المدينة: / يجوز، وبه أخذ الشَّافِعِيُّ ونصير وعصامٌ وأبو نصر الفقيه وأبو الليث ▓، والأصل الذي بُنِي عليه حرمة الاستئجار على هذه الأشياء: أنَّ كلَّ طاعة يختصُّ بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها؛ لأنَّ هذه الأشياء طاعةٌ وقربة تقع عن العامِل، قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:39] فلا يجوز أخذُ الأجرة مِن غيره؛ كالصوم والصلاة، واحتجُّوا على ذلك
          بأحاديث:
          منها: ما رواه أحمد في «مسنده»: حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم عن هشامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ: حدَّثني يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي راشدٍ الحُبْرَانيِّ قال: قال عبد الرَّحْمَن بن شِبْل: سمعت رسول الله صلعم يقول: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تَغلُّوا فيه، ولا تستكثروا به»، ورواه إسحاق ابن راهُوْيَه أيضًا في «مسنده» وابن أبي شَيْبَةَ وعبد الرَّزَّاق في «مصنَّفيهما»، ومِن طريق عبد الرزَّاق رواه عبد بن حُميد وأبو يَعْلَى الموصليُّ والطبرانيُّ.
          ومنها: ما رواه البَزَّار في «مسنده» عن حمَّاد بن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن، عن أبيه عبد الرَّحْمَن ابن عوف مرفوعًا نحوه.
          ومنها: ما رواه ابن عَدِيٍّ في «الكامل» عَن الضحَّاك بن نَبراس البَصْريِّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَة، عن رسول الله صلعم ، نحوه.
          ومنها: حديث رواه أبو داود مِن حديث المغيرة بن زياد الموصليِّ، عن عُبَادَة بن نُسَيٍّ، عن الأسود بن ثعلبة، عن عُبَادَة بن الصامت ☺ قال: علَّمتُ ناسًا مِن أهل الصُّفَّة القرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فقُلْت: ليست بمالٍ، وأرمي بها في سبيل الله، فسألت النَّبِيَّ صلعم عن ذلك، فقال: «إن أردت أن يطوِّقك الله طوقًا مِن نار؛ فاقبلها»، ورواه ابن ماجه والحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وأخرجه أبو داود مِن طريقٍ آخر مِن حديث جنادة بن أبي أميَّة، عَن عُبَادَة بن الصامت قال: كان النَّبِيُّ صلعم إذا قَدِم الرجلُ مهاجرًا دفعه إلى رجلٍ منَّا يعلِّمه القرآن، فدفع إليَّ رجلًا كان معي وكنت أُقرِئه القرآن، فانصرفت يومًا إلى أهلي، فرأى أنَّ عليه حقًّا، فأهدى إليَّ قوسًا ما رأيتُ أجودَ منها عودًا، ولا أحسن منها عطافًا، فأتيتُ رسول الله صلعم ، فاستفتيته فقال: «جمرة بين كتِفيك تقلَّدتها أو تعلَّقتها»، وأخرجه الحاكم في «كتاب الفضائل» عن أبي المغيرة عبد القدُّوس بن الحَجَّاج عن بشر بن عبد الله بن يسار، به سندًا ومتنًا، وقال: حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه.
          ومنها: ما رواه ابن ماجه مِن حديث عطيَّة الكَلَاعيِّ عَن أُبَيِّ بْن كعبٍ ☺ قال: علَّمت رجلًا القرآن، فأهدى إليَّ قوسًا، فذكرت ذلك للنبيِّ صلعم ، فقال: «إن أخذتها أخذتَ قوسًا مِن نار» قال: فرددتها.
          ومنها: ما رواه عثمان بن سعيدٍ الدارميُّ، مِن حديث أمِّ الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء: أنَّ رسول الله صلعم قال: «مَن أخذ قوسًا على تعليم القرآن؛ قلَّده الله قوسًا مِن نار».
          ومنها: ما رواه البَيْهَقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» مِن حديث سليمان بن بريدة عَن أبيه قال: قال رسول الله صلعم : «مَن قرأ القرآن يأكل به الناس؛ جاء يوم القيامة ووجهه عظمة ليس عليه لحم».
          ومنها: ما رواه التِّرْمِذيُّ مِن حديث عِمْرَان بن حُصَيْنٍ يرفعه: «اقرؤوا القرآن وسلوا الله به، فإنَّ مَن بعدكم قوم يقرؤون القرآن يسألون الناسَ به».
          وذكر ابن بَطَّالٍ مِن حديث حمَّاد بن سلمة عن أبي جرهم عن أبي هُرَيْرَة: قُلْت: يا رسول الله؛ ما تقول في المعلِّمين؟ قال: «أجرهم حرامٌ»، وذكر ابن الجوزيِّ مِن حديث ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: «لا تستأجروا المعلِّمين» وهذا غير صحيح، وفي إسناده أحمد بن عبد الله الهرويُّ، قال ابن الجوزيِّ: دجَّال يضع الحديث، ووافقه صاحب «التنقيح»، وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها مقالٌ، لكنَّه يؤكِّد بعضها بعضًا، ولا سيَّما حديث القوس، فَإِنَّهُ صحيح كما ذكرنا، فإذا تعارض نصَّان أحدهما مبيحٌ والآخر محرِّم؛ يَدلُّ على النَّسخ، كما نذكره عَن قريب، وكذلك الكلام في حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ الذي يأتي عن قريبٍ في هذا الباب، وأجاب ابن الجوزيِّ ناقلًا عَن / أصحابه عَن حديث أبي سعيدٍ ☺ ، بثلاثة أجوبة؛ أحدها: أنَّ القوم كانوا كفَّارًا فجاز أخذ أموالهم، والثاني: أنَّ حقَّ الضيف واجبٌ ولم يضيِّفوهم، والثالث: أنَّ الرقية ليست بقربة محضة، فجاز أخذ الأجرة عليهان وقال القرطبيُّ: ولا نسلِّم أنَّ جواز أخذ الأجر في الرُّقى يدُّ على جواز التعليم بالأجر، وقال بعض أصحابنا: ومعنى قوله صلعم : «إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله» يعني: إذا رقيتم به، وحمل بعض مَن منع أَخذَ الأجر على تعليمِ القرآن الأجر في الحديث المذكور على الثواب، وبعضهمُ ادَّعوا أنَّهُ منسوخٌ بالأحاديث المذكورة التي فيها الوعيد، واعترض عليه بعضُهم بأنَّه إثبات النَّسخ بالاحتمال، وهو مردودٌ.
          قُلْت: منعُ هذا بدعوى الاحتمال مردودٌ، ومَن الذي قال: هذا الحديث يحتمل النَّسخ؟! بل الذي ادَّعى النَّسخ إِنَّما قال: هذا الحديث يحتمل الإباحة، والأحاديث المذكورة تمنع الإباحة قطعًا، والنَّسخ هو الحظر بعد الإباحة؛ لأنَّ الإباحة أصلٌ في كلِّ شيءٍ، فإذا طرأ الحظرُ تدلُّ على النَّسخ بلا شك، وقال بعضهم: الأحاديث المذكورة ليس فيها ما يقوم به الحجَّة فلا تُعَارض الأحاديث الصحيحة.
          قُلْت: لا نُسلِّم عدم قيام الحجَّة فيها، فإنَّ حديث القوس صحيحٌ، وفيه الوعيد الشديد، وقال الطَّحَاويُّ: ويجوز الأجر على الرُّقى، وإن كان يدخل في بعضه القرآن؛ لأنَّه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، وتعليم الناس بعضهم بعضًا القرآنَ واجبٌ؛ لأنَّ في ذلك التبليغ عَن الله تعالى، وقال صاحب «التوضيح»: قول الطَّحَاويِّ هذا غلطٌ؛ لأنَّ تعلُّمه ليس بفرض، فكيف تعليمُه؟ وإِنَّما الفرض المعيَّن منه على كلِّ أحدٍ ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضًا، ليس بفرضٍ متعيِّن عليهم، وإِنَّما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة في الرُّقى وعلى تعليم القرآن؛ لأنَّ ذلك كلَّه منفعةٌ انتهى.
          قُلْت: هذا كلام صادرٌ بقلَّة الأدب وعدم مراعاة أدب البحث، سواء كان هذا الكلام منه أو هو نقله مِن غيره، وكيف يقول: (لأنَّ تعلُّمه ليس بفرضٍ، فكيف تعليمُه؟) فإذا لم يكن تعليمه وتعلُّمُه فرضًا؛ فلا يُفرض قراءةُ القرآنِ في الصلاة، وقد أمر الله تعالى بالقراءة فيها بقوله: {فَاقْرَءُوا}[المزمل:20] فإذا أسلم أحدٌ مِن أهل الحرب؛ أفلا يُفرَض عليه أن يتعلَّم مقدار ما تجوز به صلاته؟ وإذا لم يجد إلَّا أحدًا ممَّن يقرأ القرآن كلَّه أو بعضه؛ أفلا يجب عليه أن يعلِّمه مقدار ما تجوز به الصلاة؟ وقوله: (وإِنَّما الفرضُ المعيَّن مِنه على كلِّ أحدٍ ما يَقومُ به الصلاةُ) يدلُّ على أنَّ تعلُّمه فرضٌ عليه؛ لأنَّه لا يقدر على هذا المقدار إلَّا بالتعلُّم؛ إذ لا يقدر عليه مِن ذاته، فإذا كان ما تقوم به الصلاة مِن القراءة فرضًا عليه؛ يكون تعلُّمه هذا المقدار فرضًا عليه؛ لأنَّ ما يقوم به الفرض فرضٌ، والتعلُّم لا يحصل إلَّا بالتعليم، فيكون فرضًا على كلِّ حال، سواء كان على التعيين أو على الكفاية، وكيف لا يكون فرضًا وقد أُمِر رسولُ الله صلعم بالتبليغ مِنَ الله ولو كان آية مِنَ القرآن؟ وأوجَب التبليغ عليه فقال صلعم : «بلِّغوا عنِّي ولو آيةً مِن كتاب الله».
          (ص) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ، إلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا؛ فَلْيَقْبَلْهُ.
          (ش) (الشَّعْبِيُّ) هو عامر بن شَرَاحيل، ووصل تعليقه ابن أبي شَيْبَةَ عَن مروان بن معاوية، عن عثمان بن الحارث قال: وحَدَّثَنَا وكيع: حَدَّثَنَا سفيان عن أيُّوب بن عائذ الطائيِّ عنه، وقول الشعبيِّ هذا يدلُّ على أنَّ أخذ الأجر بالاشتراط لا يجوز، فإن أعطى مِن غير شرطٍ فَإِنَّهُ يجوز أخذه؛ لأنه إمَّا هبة أو صدقة، وليس بأجرة، وأصحابنا الحَنَفيَّة قائلون بهذا أيضًا.
          قوله: (إلَّا أَنْ يُعْطَى) الاستثناء فيه منقطعٌ، معناه: لكِنِ الإعطاء بدون الاشتراط جائزٌ فيقبله، ويُروى: <إن> بكسر الهمزة؛ أي: لكن إن يُعطَى شيئًا بدون الشرط؛ فليقبله، وإِنَّما كتب (يَعطَى) بالألف على قراءة الكسائيِّ: {مَن يَتَّقي وَيِصْبِرْ} أو الألف حصلت مِن / إشباع الفتحة.
          (ص) وَقَالَ الْحَكَمُ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ.
          (ش) (الحَكَم) بفتح الحاء والكاف، ابن عُتَيْبة، ووصل تعليقه البغويُّ في «الجعديَّات»: حَدَّثَنَا عليُّ بن الجعد، عن شعبة، سألت معاوية بن قُرَّةَ عن أجر المعلِّم، فقال: أرى له أجرًا، قال: وسألت الحكم، فقال: ما سمعت فقيهًا يكرهه انتهى.
          قُلْت: نفي الحكم سماعه مِن أحد كراهة أجر المعلِّم لا يستلزم النفي عن الكلِّ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم كره لعبادة بن الصامت حين أهدى له مَن كان يعلِّمه قوسًا... الحديث، وقد مَر عن قريب، وقال عبد الله بن شقيق: يكره أرش المعلِّم، فإنَّ أصحاب رسول الله صلعم كانوا يكرهونه ويرونه شديدًا، وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: كانوا يكرهون أن يأخذوا على الغلمان في الكُتَّاب أجرًا، وذهب الزُّهْريُّ وإسحاق إلى أنَّهُ لا يجوز أخذ الأجر عليه.
          (ص) وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً.
          (ش) أي: أعطى الحسن البصْريُّ عشرة دراهم أجر المعلِّم، ووصل تعليقه مُحَمَّد بن سعدٍ في «الطبقات» مِن طريق يحيى بن سعيد بن أبي الحسن قال: لمَّا حذقتُ قلت لعمي: يا عمَّاه؛ إنَّ المعلِّم يريد شيئًا، قال: ما كانوا يأخذون شيئًا، ثُمَّ قال: أعطِه خمسة دراهم، فلم أزَلْ به حَتَّى قال: أعطُوه عشرة دراهم، وروى ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حفصٌ عن أشعث عَنِ الحسن أنَّهُ قال: لا بأس أن يأخذ على الكتابة أجرًا، وكره الشرط، انتهى، والكتابة غير التعليم.
          (ص) وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا، وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ.
          (ش) قيل: وجهُ ذكر القَسَّام والخارص في هذا الباب الاشتراكُ في أنَّ جنسهما وجنس تعليم القرآن والرقية واجبٌ انتهى.
          قُلْت: هذا وجهٌ فيه تعسُّف، ويمكن أن يقال: وقع هذا استطرادًا لا قصدًا، و(ابْنُ سِيرِينَ) هو مُحَمَّد بن سِيرِين.
          و(القَسَّامُ) بالفتح والتشديد، مبالغة (قاسِم)، وقال الكَرْمَانِيُّ: «القُسَّام» جمع «القاسم»، فعلى قوله القاف مضمومة.
          قوله: (السُّحْتُ) بِضَمِّ السين وسكون الحاء المهملتين، وحُكِيَ ضمُّ الحاء، وهو شاذٌّ، وقد فسَّره بـ(الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ) وهو بتثليث الراء، وقيل: بفتح الراء المصدر، وبالكسر الاسم، وقيل: السحت ما يلزم العار بأكله، وقال ابن الأثير: الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله مِنَ الرِّشاء الذي يتوصَّل به إلى الماء، وقال: السحت الحرام الذي لا يحلُّ كسبه؛ لأنَّه يَسحَت البركة؛ أي: يُذهِبها، واشتقاقه مِنَ السَّحت _بالفتح_ وهو الإهلاك والاستئصال.
          قوله: (وَكَانُوا يُعْطَوْنَ) أي: الأجرةَ (عَلَى الْخَرْصِ) بفتح الخاء المُعْجَمة وسكون الراء وبالصاد المُهْمَلة، وهو الحَزْر وزنًا ومعنًى، ومضى الكلام فيه في (البيوع).
          ثُمَّ اعلم أنَّ قول ابن سِيرِين في أجرة القسَّام مُختَلَفٌ فيه؛ فروى عبد بن حُمَيد في «تفسيره» مِن طريق يحيى بن عتيق عن مُحَمَّد _وهو ابن سِيرِين_ أنَّهُ كان يكره أجور القُسَّام، ويقول: كان يقال: السحت الرشوة على الحكم، وأرى هذا حكمًا يؤخذ عليه الأجر، وروى ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق قتادة قال: قلت لابن المُسَيَِّبِ: ما ترى في كسب القسَّام؟ فكرهه، وكان الحسن يكره كسبه، وقال ابن سِيرِين: إن لم يكن حسنًا فلا أدري ما هو؟ وجاءت عنه روايةٌ يُجمَع بها بين هذا الاختلاف، قال ابن سعدٍ: حَدَّثَنَا عارم: حَدَّثَنَا حمَّاد عن يحيى عن مُحَمَّد _هو ابن سِيرِين_ أنَّهُ كان يكره أن يشارط القسَّام، فكأنَّه كان يكره له أخذ الأجرة على سبيل المشارطة، ولا يكرهها إذا كانت بغير اشتراط.
          وأَمَّا قول ابن سِيرِين: (السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ) فمأخذُه مِمَّا جاء عَن عمر وعليٍّ وابن مسعود وزيد بن ثابتٍ ♥ ، مِن قولهم في تفسير السحت: إنَّهُ الرشوة في الحكم، أخرجه الطَّبَريُّ بأسانيده عنهم، ورواه مِن وجه آخر مرفوعًا برجالٍ ثقات، ولكنَّه مرسلٌ، ولفظه: كلُّ جسم أنبته السحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله؛ وما السُّحت؟ قال: «الرشوة في الحكم».