عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب كسب البغي والإماء
  
              

          ░20▒ (ص) بابُ كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالإِمَاءِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حُكمِ كسب البغيِّ والإماء.
          (الْبَغِيُّ) الفاجرة، يقال: بغت المرأة تبغِي _بالكسر_ بَغيًا؛ إذا زنت، فهي بَغيٌّ، ويُجمَع على (بغايا)، و(الإِمَاءِ) جمع (أَمَة)، و(البغي) أعم مِن أن تكون أَمَة أو حرَّة، و(الأَمَة) أعمُّ مِن أن تكون بغيَّة أو عفيفة، ولم يصرِّح بالحكم تنبيهًا على أنَّ الممنوع مِن كسب البغيِّ مطلق، والممنوع مِن كسب الأَمَة مقيَّد بالفجور؛ لأنَّ كسبها بالصنائع الجائزة غير ممنوعٍ.
          (ص) وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ.
          (ش) (إِبْرَاهِيمُ) هو النَّخَعِي، ووصل هذا التعليق ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيعٌ: حَدَّثَنَا سفيان، عن أبي هاشم عنه: أنَّهُ كَرِه أجر النائحة والمغنيَّة والكاهن، وكرهه أيضًا الشعبيُّ والحسن، وقال عبد الله بن هُبَيْرة: وأكلهم السُّحت، قال: مهر البغي.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما المناسبة في ذكر أثر إبراهيم هذا في هذا الباب؟
          قُلْت: قال بعضهم: كأنَّ البُخَاريَّ أشار بهذا الأثر إلى أنَّ النهي في حديث أبي هُرَيْرَة محمولُ على ما كانت الحرفة فيه ممنوعة، أو تجرُّ إلى أمر ممنوع انتهى.
          قُلْت: هذا لا يصلح أن يكون جوابًا عَن السؤال عَنِ المناسبة في ذكر الأثر المذكور، ولكن يمكن أن يقال: إنَّ بين كسب البغي وأجر النائحة والمغنيَّة مناسبة مِن حيث إنَّ كلًّا منها معصية كبيرة، وأنَّ إجارة كلٍّ منها باطلة، وهذا المقدار كافٍ.
          (ص) وقَوْلِ الله تعالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:33].
          (ش) (وَقَولِ الله) بالجرِّ؛ تقديره: وبابٌ في ذكر قول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا}... الآية، ذكر هذه الآية في معرض الدليل لحرمة كسب البغيِّ؛ لأنَّه نهي عَن إكراه الفتيات؛ أي: الإماء ({عَلَى الْبِغَاء}) أي: الزَِّنى، والنهي يقتضي تحريم ذلك، وتحريم هذا يستدعي حرمة زناهنَّ، وحرمة زناهنَّ تستلزم حرمة وضع الضرائب عليهنَّ، وهي تقتضي حرمة الأجر الحاصل مِن ذلك.
          ثُمَّ سبب نزولِ هذه الآية، فيما ذكره مقاتل بن سليمان في «تفسيره»: نزلت هذه الآية في ستِّ جوار لعبد الله بن أُبَيِّ بْنُ سلول كان يكرهُهنَّ على الزنى، ويأخذ أجورهنَّ، وهي مُعاذة ومُسيكة وأُميمة وعَمرة وأروى وقُتيلة، فجاءته إحداهنَّ يومًا بدينارٍ، وجاءت أخرى ببرد، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاء الله ╡ بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتتا رسول الله صلعم وشكتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ذكره الواحديُّ في «أسباب النزول» وروى الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجِيح عن مجاهدٍ قال: في قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء}[النور:33] قال: إماءكم على الزنى، وأنَّ عبد الله بن أُبيٍّ أمر أَمَة له بالزنى، فزنت، فجاءت ببرد، فقال: ارجعي فازني على آخر، قالت: والله ما أنا براجعة، فنزلت، وهذا أخرجه مسلمٌ مِن طريق أبي سفيان عن جابرٍ مرفوعًا، وروى أبو داود والنَّسائيُّ مِن طريق أبي الزُّبَير: سمع جابرًا قال: جاءت مُسيكة أمةٌ لبعض الأنصار، فقالت: إنَّ سيِّدي يكرهني على البغاء... فنزلت.
          قوله: ({فَتَيَاتِكُمْ}) جمع (فتاة) وهي الشابَّة، و(الفتى) الشابُّ، وقد فتِي _بالكسر_ يَفتَى فتًى، فهو فتيُّ السِّنِّ بيِّنُ الفتاء، و(الفتى) السخيُّ الكريم، وقد تفتَّى وتفاتى، والجمع: (فِتْيان) و(فِتْية) و(فُتُوٌّ) على (فُعُول) و(فُتِيٌّ) مثل: (عُصِيٍّ) والفَتَيان: الليل والنهار، واستفتيت الفقيه في مسألة فأفتاني، والاسم الفُتْيا والفَتْوى.
          قوله: ({إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}) أي: تعفُّفًا، وقال بعضهم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لا مفهوم / له، بل خرج مَخرَجَ الغالب.
          قُلْت: المفهوم لا يصحُّ نفيُه؛ لأنَّ كلمة {إن} يقتضي ذلك، ولكنَّ الذي يقال هنا: إنَّ {إن} ليست للشرط، بل بمعنى (إذ) وذلك كما في قولِهِ تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[البقرة:278]، وقوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عِمْرَان:139]، وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ}[الفتح:27]، ومعنى {إن} في هذه كلِّها بمعنى (إذ)، وقال النَّسَفِيُّ في «تفسيره» في هذه الآية: وليس معناه الشرط؛ لأنَّه لا يجوز إكراههنَّ على الزنى إن لم يردن تحصُّنًا، ثُمَّ قال: وكلمة {إن} وإيثارها على «إذا» إيذانٌ بأنَّ المُساعَيَات كنَّ يفعلن ذلك برغبةٍ وطواعية، وقيل: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} متَّصل بقوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ}[النور:32] أي: مَن أراد أن يلزم الحصانة فليتزوَّج، وقيل: في الآية تقديمٌ وتأخير، والمعنى: {فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:33] لمن أردن تحصُّنًا.
          قوله: ({لِتَبْتَغُوا}) أي: لتطلبوا بإكراههنَّ على الزنى أجورهنَّ على الزنى.
          قوله: ({غَفُورٌ رَحِيمٌ}) أي: لهنَّ، وقيل: لهم، لِمَن تاب عَن ذلك بعد نزول الآية، وقيل: لهنَّ ولهم إن تابوا وأصلحوا.