عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: كان رسول الله يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة
  
              

          1170- (ص) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
          (ش) قيل لا مطابقة بين هذا الحديث وبين الترجمة حَتَّى قال الإسماعيليُّ: كان حقُّ هذه الترجمة أن تكون: تخفيف رَكْعَتَي الفجر، وقال بعضهم: ولمَّا ترجم به المصنِّف وُجِّه وجهٌ وهو أنَّهُ أشار إلى خلاف مَن زعم أنَّهُ لا يُقرَأ في رَكْعَتَي الفجر أصلًا، فنبَّه على أنَّهُ لا بُدَّ مِن القراءة، ولو وَصَفَت عائشة الصلاةَ بكونها خفيفةً؛ فكأنَّها أرادت قَرَأ الفاتحةَ فقط، أو قرأها مَعَ شيءٍ يسير غيرها، ولم يثبت عنده على شرطه تعيين ما يُقرَأ به فيهما انتهى.
          قُلْت: هذا كلامٌ ليس له وجهٌ أصلًا مِن وجوهٍ:
          الأَوَّل: أنَّ قوله: (أشار إلى خلاف مَن زعم أنَّهُ لا يُقرَأ في رَكْعَتَي الفجر أصلًا) رجمٌ بالغيب، فليت شعري! أشار بماذا؟ أشار بما يدلُّ عليه متنُ الحديث أو مِنَ الخارج؟ فالأَوَّل لا يصحُّ؛ لأنَّ الكلام ما سيق له، والثاني لا وجه له؛ لأنه لا يفيد مقصوده.
          الثاني: أن قوله: (فنبَّه على أنَّهُ لا بُدَّ مِن القراءة) غير صحيحٌ؛ لأنَّ الذي دلَّ على (لا بُدَّ) ما هو؟ وكون عائشة وَصَفَت الركعتين المذكورتين بالخفَّة لا يستلزم أن يقرأ فيهما لا بدَّ، بل هو محتمل للقراءة وعدمها.
          الثالث: أن قوله: (فكأنَّها أرادت قرأ الفاتحة فقط) كلامٌ واهٍ؛ لأنَّه أيُّ دليلٍ يدلُّ بوجه مِن وجوه الدلالات على أنَّها أرادت قراءة الفاتحة فقط؟ أو قراءتها مَعَ شيءٍ يسير غيرها؟
          الرابع: قوله: (ولم يثبت عنده على شرطه تعيين ما يُقرَأ به فيهما) يُرَدُّ بأنَّه لمَّا لم يثبت ذلك فما كان ينبغي أن تكون الترجمة بقوله: ما يُقرَأ في رَكْعَتَي الفجر؛ لأنَّ السؤال بكلمة (ما) يكون عنِ الماهيَّة، وماهيَّة القراءة في رَكْعَتَي الفجر تعيينها، وليس في الحديث ما يُعيِّن ذلك.
          وتعسَّف الكَرْمَانِيُّ في هذا / الموضع حيث قال: قوله: «خفيفتين» هو محلُّ ما يدلُّ على الترجمة؛ إذ يعلم مِن لفظ الخفة أنَّهُ لم يقرأ إلَّا الفاتحة فقط، أو مَعَ أقصر قصار المفصَّل انتهى.
          قُلْت: سبحان الله! ليت شعري مِن أين يُعلَم مِن لفظ الخفَّة أنَّهُ صلعم قرأ فيهما؟! وإذا سلمنا أنَّهُ قرأ فيهما، فمِن أينَ يُعلَم أنَّهُ قرأ الفاتحة وحدها، أو مَعَ شيءٍ مِن قصار المفصَّل؟
          فَإِنْ قُلْتَ: المعهود شرعًا وعادةً أن لا صلاة إلَّا بالقراءة؟
          قُلْت: ذهب جماعة؛ منهم: أبو بَكْر بن الأصمِّ وابن عُلَيَّةَ وطائفة مِنَ الظاهرية: أن لا قراءة في رَكْعَتَي الفجر، واحتجُّوا في ذلك بحديث عائشة الذي يأتي عن قريبٍ، وفيه: حَتَّى أنِّي لَأَقُولُ: هل قرأ بأمِّ القرآن؟
          قلنا: سلَّمنا أن لا صلاة إلَّا بالقراءة، وما اعتبرنا خلاف هؤلاء، ولكنَّ تعيين قراءة الفاتحة فيهما مِن أين؟ فإن قالوا: بقوله صلعم : «لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب»؟
          قلنا: يعارضه ما رُويَ في صلاة المسيء حيث قال له: «فكبِّر، ثُمَّ اقرأ ما تيسَّر معك مِنَ القرآن» فهذا يُنافي تعيينَ قراءة الفاتحة في الصلاة مُطلقًا؛ إذ لو كانت قراءتُها متعيِّنةً لأمره النَّبِيُّ صلعم بذلك، بل هو صريحٌ في الدلالة على أنَّ الفرض مطلق القراءة، كما ذهب إليه أبو حنيفة ☺ ، ويمكن أن يوجَّه وجهُ المطابقة بين حديث الباب وبين الترجمة بأن يقال: إنَّ كلمة (ما) في الأصل للاستفهام عن ماهيَّة الشيء؛ مثلًا: إذا قلتَ: ما الإنسان؟ معناه: ما ذاته وحقيقته؟ فجوابه: حَيَوانٌ ناطق، وقد يُستَفهم بها عن صفة الشيء؛ نحو قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه:17]؟ وما لونها؟ وههنا أيضًا قوله: (ما يُقرَأ؟) استفهامٌ عن صفة القراءة في رَكْعَتَي الفجر؛ هل هي قصيرةٌ أو طويلة؟ فقوله: (خَفِيفَتَيْنِ) يدلُّ على أنَّها كانت قصيرة؛ إذ لو كانت طويلةً لَمَا وصفت عائشة ♦ بقولها: خفيفتين، وأَمَّا تعيينُ هذه القراءة فيهما؛ فقد عُلِمَ بأحاديثَ أخرى:
          منها: ما رواه ابن عُمَر: أخرجه التِّرْمِذيُّ فقال: حَدَّثَنَا محمود بن غَيْلان وأبو عمَّار قالا: حَدَّثَنَا أبو أحمد الزُّبَيريُّ: حَدَّثَنَا سفيان عن أبي إسحاق عن مجاهدٍ عن ابن عمرَ قال: رمقتُ النَّبِيَّ صلعم شهرًا فكان يقرأ في رَكْعَتَي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وقال: حديثُ ابن عمر حديثٌ حسن، وأبو أحمد الزُّبَيريُّ ثقةٌ حافظ، واسمه مُحَمَّد بن عبد الله بن الزُّبَير، الأسديُّ الكوفيُّ، وأخرجه ابن ماجه عن أحمد بن سِنان ومُحَمَّد بن عَبَادَة؛ كلاهما عن أبي أحمد الزُّبَيريِّ، ورواه النَّسائيُّ مِن رواية عمَّار بن رُزَيق عن أبي إسحاق فزاد في إسناده إبراهيم بن مهاجر بين أبي إسحاق وبين مجاهد.
          ومنها: ما رواه ابن مسعودٍ ☺ : أخرجه التِّرْمِذيُّ أيضًا مِن رواية عاصم ابن بَهْدَلة، عن زِرٍّ وأبي وائلٍ، عن عبد الله قال: ما أُحصِي ما سمعتُ رسولَ الله صلعم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.
          ومنها: ما رواه أنسٌ ☺ : أخرجه البَزَّار مِن رواية موسى بن خَلَف عن قتادة عن أنس: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يقرأ في رَكْعَتَي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ورجال إسناده ثقاتٌ.
          ومنها: ما رواه أبو هُرَيْرَة: أخرجه مسلمٌ وأبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجه مِن رواية يزيد بن كَيْسان عن أَبِي حَازِم عن أبي هُرَيْرَة: أنَّ رسول الله صلعم قرأ في رَكْعَتَي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.
          ولأبي هُرَيْرَة حديثٌ آخر رواه أبو داود مِن رواية أبي الغيث _واسمه سالم_ عن أبي هُرَيْرَة: أنَّهُ سمع النَّبِيَّ صلعم يقرأ في رَكْعَتَي الفجر: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}[آل عمران:84] في الركعة الأولى، وبهذه الآية {رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عِمْرَان:53]، أو {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}[البقرة:119]، شكَّ الدراورديُّ.
          ومنها: ما رواه ابن عَبَّاس: [أخرجه مسلمٌ وأبو داود والنَّسائيُّ / مِن رواية سعيد بن يسار عن ابن عَبَّاسٍ] قال: كان رسولُ الله صلعم يقرأ في رَكْعَتَي الفجر: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}[البقرة:136]، والتي في (آل عِمْرَان) : {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عِمْرَان:64]، لفظ مسلمٍ، وفي رواية أبي داود: إنَّ كثيرًا مِمَّا كان يقرأ رسولُ الله صلعم في رَكْعَتَي الفجر: {آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} هذه الآية، قال: هذه في الركعة الأولى، وفي الركعة الآخرة بـ{آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:52]، وقال النَّسائيُّ: كان يقرأ في رَكْعَتَي الفجر في الأولى منهما الآية التي في (البقرة) : {قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والباقي نحوه.
          ومنها: ما رواه عبد الله بن جعفر: أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» مِن رواية أصرم بن حَوْشَب، عن إسحاق بن واصل، عن أبي جعفرٍ مُحَمَّد بن عليٍّ، عن عبد الله بن جعفر قال: كان رسولُ الله صلعم يقرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.
          ومنها: ما رواه جابر بن عبد الله: أخرجه ابن حِبَّان في «صحيحه» مِن رواية طلحة بن خِدَاش عن جابر بن عبد الله: أنَّ رجلًا قام فركع رَكْعَتَي الفجر فقرأ في الأُولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حَتَّى انقضت السورة، فقال النَّبيُّ صلعم : «هذا عبدٌ عرف ربَّه»، وقرأ في الآخرة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} حَتَّى انقضت السورة، فقال رسول الله صلعم : «هذا عبدٌ آمن بربِّه» قال طلحة: فأنا أحبُّ أن أقرأ بهاتين السورتين في هاتين الركعتين.