عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قيام النبي بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل
  
              

          ░11▒ (ص) باب قِيَامِ النَّبِيِّ صلعم بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قيام النَّبِيِّ صلعم أي: صلاته بالليل.
          قوله: (مِنْ نَوْمِهِ) وفي بعض النُّسَخ: <ونومه> بواو العطف.
          قوله: (وَمَا نُسِخَ) أي: باب أيضًا في بيانِ ما نُسِخَ مِن قيام الليل.
          (ص) وَقَوْلِهِ ╡ : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل:1-7] وَقَوْلِهِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المزمل:20].
          (ش) (وَقَولِهِ) بالجرِّ عطف على قوله: (وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ)، وهو إلى آخره داخل في الترجمة.
          قوله ╡ : ({يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}) يعني: الملتفَّ في ثيابه، وأصله (المتزمِّل) وهو الذي يتزمَّل في الثياب، وكلُّ مَن التفَّ بثوبه فقد تزمَّل، وقُلِبَت التاء زايًا، وأُدغِمت الزاي في الزاي، وروى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاس قال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي: يا مُحَمَّد؛ قد زُمِّلتَ القرآنَ، وقرئ: {المتزمِّل} على الأصل، و{المُزْمَِل} بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها، على أنَّهُ اسم فاعل أو مفعول، مِن زَمَّله؛ وهو الذي زَمَّله غيرُه، أو زَمَّل نفسَه، وكان رسولُ الله صلعم نائمًا بالليل متزمِّلًا في قطيفةٍ، فنُبِّه ونُودِيَ بها، وعن عائشة ♦ أنَّها سُئِلَت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مِرْطًا طوله أربع عشرة ذراعًا ونصفه عليَّ وأنا نائمة، ونصفه عليه وهو يصلِّي، فسِئَلت: ما كان؟ فقالت: والله ما كان خزًّا ولا قزًّا ولا مِرْعِزًّا ولا إبرَيْسَمًا ولا صوفًا، وكان سَداهُ شَعرًا ولحمتُه وَبَرًا، قاله الزَّمَخْشَريُّ، ثُمَّ قال: وقيل: دخل على خديجة ♦ وقد جُئِثَ فَرَقًا أَوَّل ما أتاه جبريل ◙ ، وبوادرُه تَرعُدُ، فقال: زمِّلوني، وحَسِبَ أنَّهُ عُرِضَ له، فبينا هو كذلك؛ إذ ناداه جبريل ◙ : {يَا أَيُّهَا المُزَمِّل} وعن عِكْرِمَة: أنَّ المعنى: يا أيُّها الذي زُمِّل أمرًا عظيمًا؛ أي: حُمِّلَهُ، و«الزِّمْلُ»: الحِمْل، و«ازْدَمَله»: احتمله انتهى، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: أشار إلى أنَّ القول الأَوَّل نداءٌ بما يُهْجنُ إليه / الحالة التي كان صلعم عليها مِنَ التزميل في قطيفته، واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل مَن لا يُهِمُّه أمرٌ، ولا يعنيه شأنٌ، فأُمِرَ أن يختار على الهجود التهجُّد، وعلى التَّزَمُّل التشَمُّر والتخفُّف للعبادة، والمجاهدة في الله ╡ ، فلا جَرَم أنَّ رسولَ الله صلعم قد تَشمَّر لذلك مَعَ أصحابه حقَّ التشمُّر، [وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا له الرقاد والدَّعَة، وجاهدوا فيه حَتَّى انتفخت أقدامُهم، واصفرَّت ألوانُهم]، وظهرت السِّيماءُ في وجوههم، وترقَّى أمرُهم إلى حَدٍّ رحمهم له ربُّهم، فخفَّف عنهم، وأشار إلى أنَّ القول الثاني _وهو قوله: وعن عائشة_ ليس بتهجين، بل هو ثناءٌ عليه، وتحسينٌ لحاله التي كان عليها، وأَمَرَه أن يدوم على ذلك.
          قوله: ({قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}) أي: منه، قال أبو بكر الأُدْفَويُّ: للعلماء فيه أقوال:
          الأَوَّل: أنَّهُ ليس بفرضٍ، يدلُّ على ذلك أنَّ بعده: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} وليس كذلك يكون الفرضُ، وإِنَّما هو ندبٌ.
          والثاني: أنَّهُ حَتمٌ.
          والثالث: أنَّهُ فَرضٌ على النَّبِيِّ صلعم وحده، رُوِيَ ذلك عن ابن عَبَّاس ☻، قال: وقال الحسن وابن سِيرِين: صلاة الليل فريضة على كلِّ مسلمٍ، ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، وقال إسماعيل بن إسحاق: قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، وقال الشَّافِعِيُّ ☼: سمعتُ بعض العلماء يقول: إنَّ الله تعالى أنزل فرضًا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ} الآية، ثُمَّ نُسِخَ هذا بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثُمَّ احتمل قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أن يكون فرضًا ثانيًا؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:79]، فوجب طلبُ الدليل مِنَ السُّنَّة على أحدِ المعنيين، فوجدنا سُنَّة النَّبِيِّ صلعم أنْ لا واجب مِنَ الصلوات إلَّا الخمس.
          قال أبو عُمَر: قولُ بعض التَّابِعينَ: «قيام الليل فرضٌ ولو قَدْرَ حَلبِ شاة» قولٌ شاذٌّ متروكٌ؛ لإجماع العلماء أنَّ قيام الليل نُسِخَ بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} الآية، وروى النَّسائيُّ مِن حديث عائشة: افتُرِضَ القيام في أَوَّل هذه السُّورة على رسول الله صلعم وعلى أصحابِه حَولًا حَتَّى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثنَي عَشَر شهرًا، ثُمَّ نزل التخفيفُ في آخرها، فصار قيام الليل تطوُّعًا بعد أن كان فريضةً، وهو قول ابن عَبَّاس ومجاهد وزيد بن أسلَمَ وآخَرين، فيما حكى عنهم النَّحَّاس، [وفي «تفسير ابن عَبَّاس»: {قُمِ اللَّيْلَ} يعني: قُمِ الليلَ كلَّه {إلَّا قَليلًا} منه، فاشتدَّ ذلك على النَّبِيِّ صلعم ] وعلى أصحابِه، وقاموا الليلَ كلَّه، ولم يعرفوا ما حَدُّ القليل؟ فأنزل الله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} فاشتدَّ ذلك أيضًا على النَّبِيِّ صلعم وعلى أصحابه، فقاموا الليلَ كلَّه حَتَّى انتفخت أقدامهم، وذلك قبل الصلوات الخمس، [ففعلوا ذلك سَنَةً، فأنزل الله تعالى ناسِخَتَها فقال: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يعني: قيام الليل مِنَ الثُّلث] والنصف، وكان هذا قبل أن تُفرَضَ الصلواتُ الخمس، فلمَّا فُرِضَت الخمسُ نَسَخَت هذا؛ كما نسخت الزكاةُ كلَّ صدقةٍ، وصومُ رمضان كلَّ صومٍ، وفي «تفسير الجُوْزِيِّ»: كان الرجل يسهر طول الليل مخافَةَ أن يُقَصِّر فيما أُمِرَ به مِن قيام ثُلُثَي الليل أو نصفه وثلثه، فشقَّ عليهم ذلك، فخفَّف الله عنهم بعد سنةٍ، وَنَسَخ وجوب التقدير بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} أي: صلُّوا ما تَيَسَّر مِنَ الصلاة ولو قَدْرَ حَلْبِ شاة، ثُمَّ نُسِخَ وجوب قيام الليل بالصلوات الخمس بعد سنةٍ أخرى، فكان بين الوجوب والتخفيف سَنَة، وبين الوجوب والنَّسخ بالكُلِّيَّة سنتان.
          ثُمَّ إعرابُ قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} على ما قاله الزَّمَخْشَريُّ: {نِصْفَهُ} بدلٌ من {اللَّيْلَ} و{إِلَّا قَلِيلًا} استثناء مِنَ (النِّصف)، كأنَّه قال: قم أقلَّ مِن نصف الليل، والضميرُ في {مِنْهُ} و{عَلَيْهِ} للنِّصف، والمعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقلَّ مِن نصف الليل على البَتِّ، / وبين أن يختار أحد الأمرين؛ وهما النقصان مِنَ النصف والزيادة عليه، وإن شئتَ جعلتَ {نِصْفَهُ} بدلًا من {قَلِيْلًا}، وكان تخييرًا بين ثلاث: بين قيام النصفِ بتمامه، وبين الناقصِ، وبين قيام الزائد عليه، وإِنَّما وَصَفَ النِّصف بالقِلَّة بالنسبة إلى الكلِّ.
          قوله: ({وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}) يعني: تَرَسَّل فيه، وقال الحسن: بَيِّنهُ إذا قرأتَه، وقال الضحَّاك: اقرأه حرفًا حرفًا، وروى مسلمٌ مِن حديث حَفصة: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يرتِّل السورة حَتَّى تكون أطولَ مِن أطولَ منها، وعن مجاهد: رتِّل بعضَه على إثر بعضٍ على تُؤَدةٍ، وعن ابن عَبَّاس: بِيِّنه بيانًا، وعنه: اقرأه على هينتِكَ ثلاثَ آياتٍ وأربعًا وخمسًا، وقال قتادة: تثبَّت فيه تثبُّتًا، وقيل: فَصِّله تفصيلًا، ولا تعجَلْ في قراءته، وقال أبو بَكْر بن طاهر: دبِّر في لطائف خطابه، وطالِب نفسَك بالقيام بأحكامه، وقلبكَ بفهم معانيه، وسِرَّك بالإقبال عليه.
          قوله: ({إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}) أي: القرآن يثقِّل الله فرائضَه وحدوده، ويقال: هو ثقيل على مَن خالفه، ويقال: هو ثقيلٌ في الميزان، خفيفٌ على اللسان، ويقال: نزوله ثقيل كما قال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية[الحشر:21]، وقال الزَّمَخْشَريُّ: يعني بالقول الثقيل: القرآنَ وما فيه مِنَ الأوامر والنواهي التي هي تكاليفُ شاقَّةٌ ثقيلةٌ على المُكلَّفين، خاصَّة على رسول الله صلعم ؛ لأنَّه متحمِّلُها بنفسه ومحمِّلُها لأمَّته، فهي أثقَلُ عليه وأبْهَظُ له.
          قوله: ({إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}) قال السَّمَرْقَنْديُّ: يعني: ساعات الليل، وهو مأخوذٌ مِن (نشأتُ) أي: ابتدأتُ شيئًا بعد شيءٍ؛ فكأنَّه قال: إنَّ ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف من الاسم، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} النفس الناشئة بالليل: التي تنشأ مِن مَضجعِها إلى العبادة؛ أي: تنهض وترتفع، مِن نشأتِ السحابُ؛ إذا ارتفعت، ونشأ مِن مكانه ونشر؛ إذا نَهَضَ، أو: قيام الليل، على أنَّ «الناشئة» مصدرٌ مِن نشأ؛ إذا قام ونهض، على «فاعِلة» كـ«العاقِبة».
          قوله: ({هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً}) قال السَّمَرْقَنْديُّ: يعني: أثقل على المصلِّي مِن ساعات النَّهار، فأخبر أنَّ الثواب على قدر الشِّدَّة، قرأ أبو عَمْرٍو وابن عامر: {أَشَدُّ وِطَاءً} بكسر الواو ومَدِّ الألف، والباقون بنصب الواو بغير مَدٍّ، فمَن قرأ بالكسر يعني: أشدُّ مواطأةً؛ أي: موافقةً بالقلب والسمع؛ يعني: أنَّ القراءة في الليل يتواطأ فيها قلبُ المصلِّي ولسانُه وسمعُه على التفهُّم، ومَن قرأ بالنصب: أبلغُ في القيام وأَبيَن في القول.
          قوله: ({وَأَقْوَمُ قِيلًا}) يعني: أثبت للقراءة، وعن الحسن: أبلغُ في الخير، وأمنعُ مِن هذا العدوِّ، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {أقوم قيلًا} أشَدُّ مقالًا، وأثبت قراءةً؛ لهُدُوِّ الأصوات، وعن أنسٍ أنَّهُ قرأ: {وأصوبُ قيلًا}، فقيل له: يا أبا حمزة؛ إِنَّما هي {أَقْوَمُ}، فقال: إنَّ {أَقْوَمُ} و«أصوبُ» و«أهيَأُ» و«أجْدَرُ» [واحدٌ]، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: {أقوم قيلًا} أصحُّ قولًا، وأسدُّ استقامةً وصوابًا؛ لفراغ القلب، وقيل: أعجلُ إجابةً للدعاء.
          قوله: ({إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}) قال الزَّمَخْشَريُّ: {سَبْحًا} تصرُّفًا وتقلُّبًا في مُهِمَّاتك وشواغِلِك، وقال السَّمَرْقَنْديُّ: {سَبْحًا} فراغًا طويلًا تقضي حوائجك فيه، ففرِّغ نفسك لصلاة الليل، وعن السُّدِّيِّ: {سَبْحًا طَوِيلًا} أي: تطوُّعًا كثيرًا؛ كأنَّه جعله مِنَ السُّبحة؛ وهي النافلة، وقال الزَّمَخْشَريُّ: أَمَّا القراءة بالخاء فاستعارة، مِن سبخ الصوف؛ وهو نفشه ونشر أجزائه؛ لانتشار الهَمِّ وتفرُّق القلب بالشواغل، كلَّفه بقيام الليل، ثُمَّ ذكر الحكمة فيما كلَّفه منه؛ وهو أنَّ الليل أهون على المواطأة وأَسَدُّ للقراءة؛ لهُدُوِّ الرِّجْلِ، وخفوت الصوت، وأنَّه أجمع للقلب وأهمُّ لنشر الهمِّ مِنَ النهار؛ لأنَّه وقت تَفرُّق الهموم، وتوزُّع الخواطر، والتقلُّب في حوائج المَعاش والمَعاد.
          قوله: ({عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}) هذا مرتبطٌ بما قبله، وهو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام الليل، وقيل: الضمير المنصوب فيه يرجع إلى مصدرٍ مقدَّرٍ؛ أي: علم ألَّا يصحَّ منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتَّى حسابها / بالتعديل والتسوية إلَّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاقٌّ عليكم بالغٌ منكم.
          قوله: ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدَّر.
          قوله: ({فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: عبَّر عن الصلاة بالقراءة؛ لأنَّها بعض أركانها، كما عَبَّر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد: فصلُّوا ما تيسر عليكم مِن صلاة الليل، وهذا ناسخٌ للأَوَّل، ثُمَّ نُسِخَا جميعًا بالصلوات الخمس، وقيل: هي قراءة القرآن بعينها، قيل: يقرأ مئة آية، ومن قرأ مئة آية في ليلةٍ لم يحاجَّه القرآن، وقيل: مَن قرأ مئة آية كُتِبَ مِنَ القانتين، وقيل: خمسين آية، وقد بَيَّن الحكمة في النُّسَخ بقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} لا يقدرون على قيام الليل {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} يعني: يسافرون في الأرض {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} يعني: في طلب المعيشة [يطلبون الرزق مِنَ الله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ}] يعني: يجاهدون في طاعة الله تعالى.
          قوله: ({فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}) أي: مِنَ القرآن، قيل: في صلاة المغرب والعشاء.
          قوله: ({وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}) أي: الصلاة المفروضة ({وَآَتُوا الزَّكَاةَ}) الواجبة، وقيل: زكاة الفطر؛ لأنَّه لم يكن بِمَكَّةَ زكاة، وإِنَّما وَجَبَت بعد ذلك، ومَن فسَّرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيًّا.
          قوله: ({وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا}) قيل: يريد سائر الصدقات المستحبَّة، وسمَّاه قرضًا تأكيدًا للجزاء، وقيل: تصدَّقوا مِن أموالكم بنيَّة خالصة مِن مالٍ حلالٍ.
          قوله: ({وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}) يعني: ما تعملون مِنَ الأعمال الصالحة وتتصدَّقون بنيَّةٍ خالصة ({تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}) يعني: تجدون ثوابه في الآخرة.
          قوله: ({هُوَ خَيْرًا}) {خيرًا} ثاني مفعولَي (وجد)، و{هُوَ} فصلٌ، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأنَّ (أفعل مِن) أشْبَهُ في امتناعِه مِن حرف التعريف المُعرِّفةَ.
          قوله: ({وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ}) يعني: اطلُبوا مِنَ الله لذنوبِكم المغفرة، وقيل: استغفِروا الله مِن تقصيرٍ وذنبٍ وقع منكم، ({إِنَّ اللهَ غَفُورٌ}) لِمَن تاب، ({رَحِيمٌ}) لِمَن استغفر.
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاس: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ.
          (ش) هذا التعليق رواه عبد بن حُمَيد الكَجِّيُّ في «تفسيره» بسندٍ صحيح عن عُبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جُبَير عن ابن عَبَّاس: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}: قال هو بكلام الحبشة: «نشأ» قام، وأنبأنا عبد الملك بن عَمْرو عن رافع بن عَمْرو عن ابن أبي مُلَيكة: سُئِل ابن عَبَّاس عن قوله تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} فقال: أيَّ الليلِ قمتَ فقد أنشأتَ.
          وفي تفسير عَبْدٍ أيضًا: عن أبي مَيْسَرة قال: هو كلام الحبشة «نشأ»: قام، وعن أبي مالك: قيام الليل بلسان الحبشة: ناشئة، وعن قتادة والحسن وأبي مِجْلَز: كلُّ شيء بعد العشاء ناشئة، وقال مجاهد: إذا قمتَ مِنَ الليل تصلِّي فهو ناشئة، وفي رواية: أيَّ ساعةٍ تهجَّد فيها، وقال معاوية بن قُرَّةَ: هي قيام الليل، وعن عاصم: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} مهموزة الياء، وفي «المجاز» لأبي عُبَيدة: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} آناء الليل، ناشئة بعد ناشئة، وفي «المنتهى» لأبي المعالي: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أَوَّل ساعاته، ويقال: أَوَّل ما يُنشأ مِنَ الليل مِنَ الطاعات وهو النَّشِيئَة، وفي «المحكَم»: الناشئة: أَوَّل النهار واللَّيل، وقيل: الناشيَة والناشئة؛ إذا نمتَ مِن أَوَّل الليل نومةً ثُمَّ قمت، وفي «كتاب الهرويِّ»: كلُّ ما حدث بالليل وبدا؛ فهو ناشئ، وقد نشأ، والجمع «ناشئة».
          واختلف العلماء؛ هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ غير العربيَّة موجودٌ في القرآن كـ{سِجِّيلٍ}[هود:82] و«فردوس» و{ناشِئَة}، وذهب الجمهور إلى أنَّهُ ليس في القرآن شيءٌ بغير العربيَّة، وقالوا: ما وَرد مِن ذلك فهو مِن توافق اللُّغتين، فعلى هذا لفظ {ناشِئَة} إمَّا مصدرٌ على وزن (فاعِلَة) ؛ كـ(عاقِبَة) مِن نشأ؛ إذا قام، أو هو اسم فاعل، صفةٌ لمحذوفٍ؛ تقديره: النفس الناشِئة، كما نقلنا عنِ الزَّمَخْشَريِّ عن قريبٍ.
          (ص) {وِطَاءً}[المزمل:6] مُوَاطَأَةً لِلْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، {لِيُوَاطِئُوا}[التوبة:37]: لِيُوَافِقُوا.
          (ش) وفي بعض النُّسَخ: <{وِطَاءً} قال: مواطأة> أي: قال البُخَاريُّ: معنى: {وِطَاءً} مواطأةً للقرآن، [وفي بعض النُّسَخ: <مواطأة القرآن> يعني: إنَّ ناشئة الليل هو أشدُّ مواطأةً للقرآن].
          وهذا التعليق / أيضًا وصله عبد بن حُمَيد مِن طريق مجاهد قال: {أَشَدُّ وِطاءً} أن يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضًا، وقد مرَّ الكلام فيه عن قريب.
          قوله: ({لِيُوَاطِئُوا}[التوبة:37] لِيُوَافِقُوا) : هذا مِن تفسير (براءة) مِن قوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} الآية[التوبة:37]، وذكر أنَّ معناه: (لِيُوَافِقُوا)، وإِنَّما ذكره ههنا تأكيدًا لتفسيره: {وِطَاءً} وقد وصله الطَّبَريُّ عن ابن عَبَّاس، لكن بلفظ (ليشابهوا).