عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام
  
              

          3493- (ص) حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً».
          3494- «وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ».
          (ش) مطابقتُه للترجمة ظاهرةٌ.
          و(إِسْحَاقُ / بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهُوْيَه، و(جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد، و(عُمَارَةُ) بِضَمِّ العين المُهْمَلة، وتخفيف الميم: ابن القعقاع، و(أَبُو زُرْعَةَ) اسمه هرِم، وقيل: عبد الرَّحْمَن، وقيل: عَمْرو.
          والحديث أخرجه مسلمٌ في (الفضائل) بتمامِه، وفي (الأدب) بقصَّة ذي الوجهين.
          قوله: (مَعَادِنَ) أي: كمعادِنَ، والحديثُ الآخَرُ يوضِّحُه: «الناسُ معادنُ كمعادن الذهب والفضَّة»، ووجهُ التشبيه: اشتمالُ المعادن على جواهِرَ مختلفةٍ؛ مِن نفيس وخَسيس؛ كذلك الناسُ مَن كان شريفًا في الجاهليَّة؛ لم يزِدْه الإسلامُ إلَّا شرفًا، فإن تفقَّه؛ وصل إلى غاية الشرف، وكانت لهم أصولٌ في الجاهليَّة يستنكفون عن كثيرٍ مِنَ الفواحش.
          قوله: (إِذَا فَقِهُوا) يعني: إذا فهِمُوا أمورَ الدين، و(الفِقه) في الأصل: الفَهْمُ، يقال: فقِه الرجل _بكسر القاف_ يفقَه؛ بفتحها؛ إذا فهِم وعلِم، وفقُه يفقُه؛ بِضَمِّ القاف فيهما؛ إذا صار فقِهًا عالمًا، وقد جعله العُرف خاصًّا بعلم الشَّريعة، وتخصيصًا بعلم الفروع منها.
          قوله: (تَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ) أي: في الخلافة، أو في الإمارة.
          قوله: (أَشَدَّهُمْ) بالنصب على أنَّهُ مفعول ثانٍ لـ(تجدون).
          قوله: (لَهُ) أي: لهذا الشأن.
          قوله: (كَرَاهِيَةً) نصبٌ على التمييز، ويُروى: <كراهة>.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف يصيرُ خيرَ جميع الناس بمجرَّد كراهيةٍ له؟ قُلْت: المراد إذا تساوَوا في سائرِ الفضائل، أو يُراد من (الناس) الخلفاء أو الأمراء، أو معناه: مِن خيرِهم؛ بقرينة الحديث الذي بعده؛ فإنَّ فيه: «تجدون مِن خير الناس»؛ بزيادة كلمة (مِن)، كأنَّه قال: تجدون أكرهَ الناسِ في هذا الأمرِ مِن خيارِهم، والكراهةُ بسبب علمِه بصعوبة العدلِ فيها، والمطالبة في الأخرى، وهذا في الذي ينال الخلافةَ أو الإمارةَ مِن غيرِ مسألة، فإذا نالها بمسألةٍ؛ فأمرُه أعظمُ؛ لأنَّه لا يُعانُ عليها، وهذا القسمُ أكثرُ في هذا الزَّمان.
          قوله: (ذَا الْوَجْهَينِ) مفعولٌ ثانٍ لقوله: (تَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ) و(ذو الوجهين) هو المنافق، وهو الذي يمشي بين الطائفتين بوجهين، يأتي لإحداهما بوجهٍ، ويأتي للأخرى بخلافِ ذلك، وقال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}[النساء:143]، قال المفسِّرون: {مُذَبْذَبِينَ} يعني: المنافقين مُحيَّرين بين الإيمان والكفر، فلا هُم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا هم مع الكفار ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرُهم مع المؤمنين، وبواطنُهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشكُّ، فتارةً يميل إلى هؤلاء، وتارةً يميل إلى هؤلاء، وروى مسلمٌ من حديث عبد الله بن عُمَر عنِ النَّبِيِّ صلعم قال: «مَثَلُ المنافقِ كمَثَلِ الشاة العائرة بين الغَنَمين، تعير إلى هذه مَرَّةً، وإلى هذه مَرَّةً، لا تدري أيَّتهما تتبعُ؟».