عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين
  
              

          ░15▒ (ص) بابٌ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِيَّ صلعم بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأَنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأَنْصَارَ، وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ من تَمْرَ خَيْبَرَ.
          (ش) (بابٌ) مرفوعٌ على أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا بابٌ يُذكَر فيه: ومِنَ الدليل... إلى آخره، وقال بعضُهم: «ومِنَ الدليل» عطف على الترجمة التي قبل ثمانية أبواب؛ حيث قال: الدليل على أنَّ الخمس لنوائب رسول الله صلعم ، وقال هنا: «لنوائب المسلمين» وقال بعد باب: «ومِنَ الدليل على أنَّ الخمس للإمام» انتهى.
          قُلْت: لا وجهَ لدعوى هذا العطفِ البعيد المتخلِّل بين المعطوفِ والمعطوف عليه أبوابٌ بأحاديثِها، فإن اضطُرَّ إلى القول بهذا لأجلِ الواو؛ فيُقال له: هذه ليسَت بِواوِ العطف، وإِنَّما مثلُ هذا يأتي كثيرًا بدونِ أن يكون معطوفًا على شيءٍ، فيقال: هذه واوُ الاستفتاح، وهو المسموع مِنَ الأساتذة الكِبار، ولمَّا ذكر أوَّلًا الخُمس لنوائب رسول الله صلعم ، ثُمَّ ذكر لنوائب المسلمين، ثُمَّ ذكر أنَّ الخمس للإمام...، وطريقُ التوفيق بينها أنَّ الخمس لرسول الله صلعم ، ثُمَّ للإمام بعده يتولَّاه مثل ما كان صلعم يتولَّاه.
          وأَمَّا قوله هُنا: (لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ) هو أنَّهُ لا يكون إلَّا مع تولِّي النَّبِيِّ صلعم قسمتَه، وله أن يأخذ منه ما يحتاج إليه بقدر كفايته، وكذلك مَن يتولَّى بعده، وقال بعضُهم: وجوَّز الكَرْمَانِيُّ أن تَكون كلُّ ترجمةٍ على وَفْقِ مذهبٍ مِنَ المذاهب، وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ أحدًا لم يقل: إنَّ الخُمس للمسلمين دون النَّبِيِّ صلعم ودون الإمام، ولا للنبيِّ صلعم دون المسلمين، وكذا للإمام انتهى.
          قُلْت: عبارةُ الكَرْمَانِيِّ هكذا: فَإِنْ قُلْتَ: ترجَمَ هذه المسألة [أوَّلًا] بقوله: «ومِنَ الدليل على أنَّ الخُمس لنوائب رسول الله صلعم » وثانيًا بقوله: «ومِنَ الدليل على أنَّ الخمس لنوائب المسلمين» وثالثًا: أنَّ الخمس للإمام، فما التلفيقُ بينها؟ قُلْت: المذاهبُ / فيه مختلفة، فبوَّبَ لكلِّ مذهبٍ بابًا وترجَمَ له، ولا تفاوُتَ في المعنى؛ إذ نوائبُ رسول الله صلعم هي نوائبُ المسلمين، ولا شكَّ أنَّ التصرف فيه له ولمن يقوم مَقامَه انتهى.
          قُلْت: قوله: (ولا تفاوت في المعنى) يُنبِئُ عن وجهِ التوفيقِ مثلَ ما ذكرناه، غير أنَّهُ قال: لكلِّ مذهب بابًا بحسَب النظر إلى الظاهر، وأَمَّا بالنظَر إلى المعنى فما قاله، على أنَّا نقول: في هذا الباب مَذاهب.
          وذكر المفسِّرون في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}[الأنفال:41] قال أبو جعفرٍ الرازيُّ عن الربيعِ عن أبي العالية الرِّياحيِّ قال: (كان رسول الله صلعم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة، يكون أربعةُ أخماسٍ لمن شهِدَها، ثُمَّ يأخذ الخُمس فيضرب بيدِه فيه، فيأخذ منه الذي قَبَض كفُّه فيجعله للكعبة، وهو سهمُ الله، ثُمَّ يقسم ما بقيَ على خمسة أسهُم، فيكون سهمٌ للرسول، وسهمٌ لذوي القربى، وسهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لابن السبيل)، وروى عليُّ بن [أبي] طلحة عن ابن عَبَّاسٍ قال: كانت الغنيمةُ تُقسَم على خمسة أخماسٍ؛ فأربعةٌ منها بين مَن قاتل عليها، وخُمسٌ واحدٌ على أربعة أخماس؛ فرُبْعٌ لله وللرَّسول، فما كان لله وللرسول فهو لقرابةِ رسول الله صلعم ، ولم يأخذ النَّبِيُّ صلعم مِنَ الخُمس شيئًا، وروى ابن [أبي] حاتم بإسناده عن عبد الله ابن بُرَيدة عن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}...الآية[الأنفال:41] قال: الذي لله فلِنبيِّه، والذي للرسول فلِأزواجِه، وروى أبو داود والنَّسائيُّ مِن حديث عَمْرو بن عَبَسة: أنَّ رسول الله صلعم صلَّى بهم إلى بعيرٍ مِنَ المغنم، فلمَّا سلَّم أخذ وَبَرَةً مِن ذلك البعير، ثُمَّ قال: «ولا يحلُّ لي مِن غنائمكم مثلُ هذا إلَّا الخمس، والخمسُ مردودٌ فيكم»، وقالت جماعةٌ: إنَّ الخمسَ يَتَصرَّف فيه الإمامُ بالمصلحة للمسلمين؛ كما يَتَصرَّف في مال الفيء، وقالت طائفةٌ: يُصرَف في مصالح المسلمين، وقالت طائفة: بل هو مردودٌ على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، قال ابن جَرير: وهو قولُ جماعةٍ مِن أهل العِراق، وقيل: إنَّ الخُمس جميعه لذوي القُربى؛ كما رواه ابن جَرير: حَدَّثَنَا الحارث بن عبد العزيز: حَدَّثَنَا عبد الغفَّار: حَدَّثَنَا المِنْهَال بن عَمْرو: سألتُ عبد الله بن مُحَمَّد بن عليٍّ وعليَّ بن الحسين عنِ الخُمس، فقالَ: هو لنا، فقلتُ لعليٍّ: إنَّ الله يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}[الأنفال:41] فقال: يتامانا ومساكيننا.
          قوله: (لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ) (النَّوائب) جمع (نائبة) وقد فسَّرناها بأنَّها ما ينوبُ الإنسان مِنَ الحوادث.
          قوله: (مَا سَأَلَ) في محلِّ الرفع على الابتداء، وخبرُه قولُه: (وَمِنَ الدَّلِيلِ).
          قوله: (هَوَازِنُ) مرفوعٌ؛ لأنَّه فاعل (سأل) وهو أبو قبيلة، وهو هوازن بن منصور بن عِكْرِمَة بن قَيس عَيلان، قال الرُّشاطيُّ: في هوازنَ بطونٌ كثيرةٌ وأفخاذ، وفي خُزاعة أيضًا هوازن بن أسلَمَ بن أفْصى.
          قوله: (النَّبِيَّ) منصوبٌ بقوله: (سأل).
          قوله: (بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ) أي: بسبب رضاعه صلعم فيهم، ويُروى: <بِرَضاعةٍ> بلفظ المصدرِ والتنوين، وذلك أنَّ حَليمة _بفتح الحاء المُهْمَلة_السَّعْديَّة التي أرضعت النَّبِيَّ صلعم منهم؛ إذ هي بنتُ أبي ذُؤيب _بِضَمِّ الذال المُعْجَمة_عبد الله بن الحارث بن شِجْنَة _بكسر الشين المُعْجَمة وسكون الجيم وفتح النون_ابن صابر بن رِزام _بكسر الراء وتخفيف الزاي_ابن ناضرة _بالنون والضاد المُعْجَمة والراء_ابن سَعْد بن بَكْر بن هوازن.
          قوله: (فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي: استحلَّ مِنَ الغانمينَ أقسامَهم مِن هوازن، أو طلَبَ النزولَ عن حقِّهم، وقد مرَّ تحقيقُه في (كتاب العِتق) في (باب مَن مَلَك مِنَ العرب رقيقًا).
          قوله: (وَمَا كَانَ) عطفٌ على قوله: (ما سأل).
          قوله: (مِنَ الْفَيْءِ وَالأَنْفَالِ) (الفيء) ما يحصل مِنَ الكفار بغير قتال، و(الأنفال) جمع (نَفَل) بالتحريك، وهو ما شَرَط الأميرُ لمتعاطي خَطَرٍ مِن مال المصالح، وهو الغنيمة، هذا في اصطلاحِ الفُقَهاء، وأَمَّا في اللُّغة فقال الجَوْهَريُّ: «الفيء» الخَراج والغنيمة، و«النَّفَل» الغنيمة، يقال: نفَّلتُه تَنفيلًا؛ أي: أعطيتُه نَفَلًا.
          قوله: (وَمَا أَعْطَى الأَنْصَارَ) عطف على قوله: (وما كان)، وقوله: / (وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) عطفٌ على ما قبله.
          قوله: (من تَمْرَ خَيْبَرَ) بالتاء المُثَنَّاة مِن فوق أو بالثاء المُثَلَّثة.