الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي للحسن بن علي: ابنى هذا سيد

          ░9▒ (بابُ قَوْلِ) سقط: <باب> لأبي ذرٍّ، وعليه: فـ ((قول)) مرفوعٌ، خبرٌ لمحذوفٍ، نحوُ قولُك هذا: قولُ (النَّبِيِّ صلعم لِلْحَسَنِ) بفتح الحاء والسين المهملتين واللام الجارة بمعنى: عن، أو: في، على حدِّ قولِهِ تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [العنكبوت:12] فافهم.
          (ابْنِ عَلِيٍّ) أي: ابنِ أبي طالبٍ ☻ (ابْنِي هَذَا) إشارةٌ إلى الحسَنِ (سَيِّدٌ) قال في ((الفتح)): ترجَمَ المصنِّفُ بلفظ الحديثِ احتِرازا وأدباً، انتهى، فليُتأمَّل.
          قال العَينيُّ وتَبِعَه القسطلانيُّ: هذا مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و((ابني)) خبرٌ مقدَّمٌ، و((سيِّدٌ)) خبرٌ بعد خبرٍ، انتهى.
          وأقولُ: فيه أنَّ النُّحاةَ صرَّحوا بأنَّه يجبُ ابتدائيةُ الأولِ على الصحيح فيما إذا كانا معرِفتَين، وإنِ اختلفَتْ رتبتُهما.
          قال ابنُ هشامٍ في ((مغنيه)) في أولِ الباب الرابع: يجبُ ابتدائيَّةُ المقدَّمِ من الاسمَينِ في ثلاثِ مسائلَ:
          إحداها: أن يكونا معرفتَين تساوَتْ رُتبتُهما، نحوُ: {اللهُ ربُّنا} أو اختلفَتْ، نحوُ: زيدٌ الفاضلُ، والفاضِلُ زيدٌ، هذا هو المشهورُ، وقيل: يجوزُ تقديرُ كلٍّ منهما مبتدأً وخبراً مُطلَقاً، وقيل: المشتَقُّ خبرٌ وإن تقدَّمَ، نحو: القائمُ زيدٌ، قال: والتَّحقيقُ أنَّ المبتدأَ ما كان أعرَفَ، أو كانَ هو المعلومَ للمُخاطَبِ، فإنْ عَلِمَهما وجَهِلَ النِّسبةَ؛ فالمقدَّمُ المبتدَأُ، انتهى.
          وحينئذٍ فجَعلُ: ((ابني)) مبتدأً، إما متعيِّنٌ، أو هو الأَولى، و((هذا)) خبرٌ، إلا أن يُدَّعى أنَّ ((هذا)) هو المعلومُ للمُخاطَبِ، وحينئذٍ؛ فيظهَرُ ما قالاه، فتأمَّل.
          و((سَيِّدٌ)) خبرٌ بعد خبرٍ، ويجوزُ جَعلُ ((هذا)) مبتدأ ثان، وخبرُه ((سيِّدٌ))، والجملةُ: خبرُ الأول، ويجوزُ جَعلُ ((هذا)) بدَلاً، أو عطفَ بيانٍ، أو نعتاً لـ((ابني))، و((سيدٌ)) الخبرَ، فتدبَّر، وافهم.
          تنبيه: الذي رأيناه في أصولٍ هذا الصَّحيحُ هنا: ((ابني هذا)) بغير ((إنَّ)) في أولِهِ، وكذا في شروحِهِ سِوى شرحَي ابنِ بطَّالٍ وابنِ الملقِّن؛ فإنَّهما بإثباتِ ((إنَّ))، وكذا وقع في كلامِ النَّوويِّ وغيرِه إثباتُها مع عَزوِ ذلك للبخاريِّ، وسيأتي في آخرِ الباب موصولاً بزيادة: ((إنَّ)).
          فائدة: كما في ((العمدة)) كـ((التوضيح)): السَّيدُ: الرَّئيسُ، قال كراعٌ: وجمعُه: سادةٌ، وقيل: سادةٌ: جمعُ: سائدٍ، وهو من السُّؤدُدِ، وهو الشَّرفُ.
          وقال ابنُ سِيدَه: وقد يُهمَزُ السُّؤدُدُ وتُضَمُّ دالُه، وقد سادَهُم سُوداً وسُؤدُداً وسيادَةً وسيدُودَةً، واستادَهُم كسَادَهُم وسوَّدَه هو.
          قال: وذكر الزُّبيديُّ في كتابِهِ ((طبَقات النُّحاة)) أنَّ أبا محمَّدٍ الأعرابيَّ قال لإبراهيمَ بنِ الحجَّاجِ الثائرِ بإشبِيليَّةَ: باللهِ أيها الأميرُ؛ ما سيَّدَتْكَ العربُ إلَّا بحقِّك، تقول: سيَّدَتْكَ _بالياء_، فلما أنكَرَ عليه قال: السَّوادُ السُّخامُ، وأصَرَّ على أنَّ الصَّوابَ معه، ومالأَه على ذلك الأميرُ لعِظَمِ مَنزلتِهِ في العلمِ، وقيل: اشتِقاقُ السَّيدِ من السَّوادِ؛ وهو: الكثيرُ من الناس، انتهى.
          (وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ) قال البرماويُّ وغيرُه: استُعمِلَ ((لعل)) استِعمالَ: عسى، في الإتيان بـ ((أنْ)) في خبرِها لاشتراكِهما في الرَّجاء، وفي بعضِ الرِّواياتِ: بحَذفِ ((أن))، و<يُصلِحُ> بضم التحتية أولَه، من الإصلاح (بِهِ) أي: بالحسَنِ المذكور (بَيْنَ فِئَتَيْنِ) تثنيةُ: فئةٍ، بمعنى: فِرقةٍ،أي: فِرقتَينِ(عَظِيمَتَيْنِ) وفي بعض الرِّواياتِ زيادةُ: <من المسلمين> وفي بعضٍ آخرَ: <بين فئتَينِ من المسلمين>.
          قال في ((التوضيح)): الفِئةُ: الفِرقةُ، مأخوذةٌ من: فأَوتُ رأسَه بالسَّيفِ، وفأَيتُه، انتهى.
          وهذا التعليقُ وصلَه المصنِّفُ في علاماتِ النبوَّة، وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ لرسولِ الله صلعم، ووصفُ الفئتَين بالعِظَمِ؛ لكَثرةِ المسلمين / يومَئذٍ الذين مع الحسَنِ ومعَ مُعاويةَ ☻.
          قال العَينيُّ: وأصلُ القضيَّة: أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ ☺ لمَّا ضربَه عبدُ الرحمن بنُ مُلجَمٍ المراديُّ يومَ الجمُعةِ لثلاثَ عشْرةَ ليلةً بقيَتْ من رمَضانَ، وقال أبو اليَقظان: في الليلةِ السابعةَ عشرَةَ من رمضانَ، وقال الحسَنُ: كانت ليلةَ القَدْرِ التي عُرجَ فيها بعيسى عليه السَّلامُ، وبنى فيها رسولُ الله صلعم، ومات فيها موسى ويوشَعُ بنُ نونٍ عليهما السلام، فمكَثَ؛ أي: عليٌّ بعد الضَّربةِ يومَ الجمُعةِ وليلةَ السبت، وتوفِّيَ ليلةَ الأحدِ لإحدى عشْرةَ ليلةً بقيَتْ من رمضانَ سنةَ أربعين من الهِجرة، وبُويِعَ لابنِهِ الحسنِ ☺ بالخلافةِ في شهرِ رمضانَ من هذه السنة، فقيل: في اليوم الذي استُشهدَ فيه عليٌّ، قاله الواقديُّ.
          وقيل: في الليلةِ التي دُفنَ فيها، وقيل: بعد وفاتِهِ بيومَين، وأقام الحسنُ أياماً يفكِّرُ في أمرِهِ، ورأى اختلافَ الناس، وأنَّ الأمرَ لا يتِمُّ إلا بسَفْكِ الدِّماء، فرأى حَقْنَ دماءِ المسلمين بالصُّلحِ مع معاويةَ، وأنه ينزِلُ له عن الخلافةِ على شروطٍ قَبِلَها معاويةُ، وكان في اليوم الخامسِ من ربيعٍ الأوَّلِ، وقيل: الآخِرِ، وقيل: في غُرَّةِ جُمادى الأولى، فكانت خلافتُه ستَّةَ أشهرٍ إلا أياماً، وسُمِّيَ هذا العامُ عامَ الجمَاعة، وفي ذلك تصديقُ خبرِهِ عليه السَّلامُ بقوله: ((ابني هذا سيِّدٌ...)) الحديثَ، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: ذكرَ أهلُ الأخبار فيما حكاهُ ابنُ بطَّالٍ: أنَّ عليًّا لمَّا مات بايع أهلُ الكوفة ابنَه الحسَنَ، وبايع أهلُ الشام معاويةَ، فسارَ معاويةُ بأهل الشَّام يريدُ الكوفةَ، وسارَ الحسَنُ بأهلِ العراقِ، فالتَقيا بمَنزِلٍ من أرضِ الكوفة، فنظرَ الحسَنُ إلى كَثرةِ مَنْ معه مِن جيوشِ العِراق، فنادى: يا معاويةُ؛ إني اخترتُ ما عندَ الله، فإن يكُنْ هذا الأمرُ لك فما ينبغِي لي أن أُنازِعَك عليه، وإن يكُنْ لي فقد خلعْتُه لك، فكبَّرَ أصحابُ مُعاويةَ.
          وقال المغيرةُ بنُ شُعبةَ عند ذلك: أشهَدُ أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلعم يقولُ للحسَن: ((إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، سيُصلِحُ الله به بين فئتَينِ من المسلمين)) فجزاكَ اللهُ عن المسلمين خيراً.
          وقال الحسَنُ: اتَّقِ اللهَ يا معاويةُ في أمَّةِ محمَّدٍ، لا تُفنِهم بالسَّيفِ على طلَبِ الدُّنيا وغرورِ فانيةٍ زائلة، فسلَّمَ الحسَنُ الأمرَ إلى معاويةَ وصَالحَه، وبايعَه على السَّمع والطاعةِ على إقامةِ كتابِ اللهِ وسنَّةِ نبيِّه، ثم دخلا الكوفةَ، فأخذَ معاويةُ البَيعةَ لنفسِهِ على أهلِ العِراقَين، فكانتْ تلك السَّنةُ سنةَ الجَماعة؛ لاجتِماعِ الناسِ واتِّفاقِهم، وانقطاعِ الحربِ بينهم، وبايَعَ معاويةَ كلُّ مَن كان مُعتزِلاً عنه، وبايعَه سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ الله بنُ عمرَ، ومحمدُ بنُ مسلَمةَ، وتباشَرَ الناسُ بذلك، وأجازَ معاويةُ الحسَنَ بثلاثِمائةِ ألفِ دِرهَمٍ، وألفِ ثوبٍ، وثلاثين عبداً، ومائةِ جمَلٍ، وانصرفَ الحسَنُ إلى المدينة، وولَّى معاويةُ الكوفةَ المغيرةَ بنَ شُعبةَ، وولَّى البَصْرةَ عبدَ الله بنَ عامرٍ، وانصرفَ إلى دمشقَ واتَّخذَها دار مملَكَتِه، انتهى.
          (وقولِه): بالجرِّ، ويجوزُ رفعُه عطفاً على ((باب))، وكذا هو مرفُوعٌ لا غيرُ على إسقاطِ ((باب)).
          وقولُه: (جَلَّ ذِكْرُهُ) سقطَ في روايةِ أبي ذرٍّ، ووقعَ في بعضِ الأصولِ بدَلَه: <╡> وفي بعضٍ آخرَ: <تعالى> ({فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أشار بهذه الجُملةِ من آيةِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] الواقعةِ في سورةِ الحجُراتِ إلى أنَّ الصُّلحَ مشروعٌ / ومندوبٌ إليه، كذا في ((العمدة)).
          وقال في ((الفتح)): لم يظهَرْ لي مُطابَقةُ الحديثِ لهذا القَدرِ من التَّرجمةِ، إلا إن كان يريدُ أنه عليه السَّلامُ كان حريصاً على امتثالِ أمرِ الله، وقد أمَرَ بالإصلاح، وأخبَر صلعم أنَّ الصُّلحَ بين الفئتَين المختلفتَين سيَقعُ على يدِ الحسَن، انتهى.
          وجملةُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} جوابُ: {إِنْ} الشرطيَّةِ، مقرونٌ بالفاء، وضميرُ: {فَأَصْلِحُوا} عائدٌ للمؤمنين غيرِ المقتَتِلين، وضميرُ {بَيْنَهُمَا} للطائفتَين المذكورتَين، وجمعَ ضميرَهما في {اقْتَتَلُوا} باعتبارِ المعنى، فإنَّ كلَّ طائفةٍ جَمعٌ، والصُّلحُ بينهما يحصُلُ بنُصحِهما ودُعائهما إلى حُكمِ الله تعالى، قاله البَيضاويُّ.