الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك

          2691- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) أي: ابن مُسَرهَدٍ، قال: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) بالراء، علَمٌ منقولٌ عن اسمِ فاعلِ: اعتمَرَ؛ وهو ابنُ سليمانَ التَّيميُّ (قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي) أي: سليمانَ بنَ طَرْخانَ (أَنَّ أَنَساً) أي: ابنَ مالكٍ ☺.
          قال في ((الفتح)): والإسنادُ كلُّه بَصريون، وليس فيه تصريحٌ بتحديثِ أنسٍ لسُلَيمانَ التيميِّ، وأعَلَّه الإسماعيليُّ بأنَّ سليمانَ لم يسمَعْه من أنسٍ، واعتمدَ على روايةِ المُقدَّميِّ عن مُعتمِرٍ عن أبيه: أنه بلَغَه عن أنسِ بنِ مالكٍ، انتهى.
          (قَالَ) أي: أنسٌ (قِيلَ) قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِ القائل (لِلنَّبِيِّ صلعم لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) بتشديد التحتية آخرَه؛ هو: ابنُ سَلولَ الخَزرَجيُّ، رأسُ المنافقين، و((لو)) للتمنِّي، فلا جوابَ لها، أو شرطيةٌ وجوابُها محذوفٌ؛ أي: لَكانَ خيراً، وكان مَنزِلُه بالعاليةِ (فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ) أي: إلى عبدِ الله (النَّبِيُّ صلعم).
          وجملةُ: (وَرَكِبَ حِمَاراً) حالٌ من ((النبيِّ)) (فَانْطَلَقَ) بفاء السببية (المُسْلِمُونَ) وفي بعض النُّسَخ: <الناسُ> مع رسولِ الله صلعم، وجملةُ: (يَمْشُونَ) حالٌ من المسلمين أو الناسِ (مَعَهُ) ظرفٌ لـ((يمشون))؛ أي: مع النبيِّ صلعم (وَهْيَ) أي: الأرضُ التي مرَّ عليها النبيُّ، المعلومةُ من المَقامِ (أَرْضٌ سَبِخَةٌ) وفي بعضِ الأصُول: <وهو في أرضٍ سَبِخةٍ> بفتح السين المهملة وكسر الموحدة وبالخاء المعجمة، ككَلِمةٍ، فيجري فيها لغاتُها؛ أي: ذاتُ سِباخٍ، وهي الأرضُ التي لا تُنبِتُ لملوحتِها.
          قال في ((المصباح)): سَبِخَتِ الأرضُ سَبَخاً، من بابِ: تَعِبَ، فهي سبِخةٌ _بكسر الباء وإسكانها تخفيفاً_ وأسبَخت: _بالألف_ لغةٌ، ويُجمَعُ المكسورُ على سَبِخاتٍ، مثلُ: كَلِمةٍ وكَلِماتٍ، ويُجمَعُ الساكنُ على سِباخٍ، مثلُ: كَلْبةٍ وكِلابٍ، ومَوضِعٌ سَبَخٌ وأرضٌ سَبَخةٌ _بفتح الباء_ أيضاً؛ أي: مِلْحةٌ، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): والسَّبْخةُ _محرَّكةً ومسكَّنةً_: أرضٌ ذاتُ نَزٍّ ومِلْحٍ، والجمعُ: سِباخٌ، وأسبَخَتِ الأرضُ، ومَوضِعٌ بالبصرة، ومنه فَرْقَدُ بنُ يعقوبَ، وما يعلو الماءَ منه كالطُّحْلُب، وسَبَخَ: تباعَدَ، وتسبَّخَ الحَرُّ: سَكَنَ وفَتَرَ، كسَبَّخَ تسبيخاً، وأَسبَخَ في سفَره: بلَغَ السِّبَاخَ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وكانت تلك صفةَ الأرضِ التي مرَّ بها النبيُّ صلعم إذ ذاك، وذكَرَ ذلك توطئةً لقولِ عبدِ الله بنِ أُبيٍّ إذ تأذَّى بالغُبار (فَلَمَّا أَتَاهُ) وفي بعض الأصُول: <فلمَّا رَآه> أي: ابنَ سَلولَ لعنه الله (النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ) بالفاء؛ أي: عبدُ الله بنُ أبيٍّ، ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ والأصيليِّ: <قال> وكلاهما صحيحٌ، وإن كان الأكثرُ الثانيَ (إِلَيْكَ) اسمُ فعلٍ، والخطابُ للنبيِّ صلعم؛ أي: تَنَحَّ (عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي) بمد الهمزة وبالذال المعجمة (نَتْنُ) بفتح النون وسكون المثناة الفوقية فنون آخره.
          قال في ((المصباح)): نَتُنَ الشيءُ _بالضم_ نُتونةً ونَتانةً، فهو نَتينٌ، مثلُ: قريبٍ، ونَتَنَ نَتْناً، من بابِ: ضَرَبَ، ونَتِنَ ينتَنُ فهو نَتِنٌ، من بابِ: تَعِبَ، وأنتَنَ إنتاناً، فهو مُنتِنٌ، وقد تُكسَرُ الميمُ للإتباع، وضمُّ التاءِ إتباعاً للميم قليلٌ، انتهى.
          وذكر في ((القاموس)) / أنه يُقالُ فيه: مِنتِينٌ، كقِنديلٍ؛ أي: رائحةٌ.
          (حِمَارِكَ) وفي ((تفسيرِ مقاتلٍ)) كما في ((التوضيح)) و((العمدة)): ((مرَّ النبيُّ صلعم على الأنصارِ وهو راكبٌ حِمارَه يَعفورُ، فبالَ، فأمسَكَ ابنُ أُبيٍّ بأنفِه، وقال لرسول الله صلعم: خلِّ للنَّاسِ سبيلَ الرِّيحِ من نَتْنِ هذا الحمارِ، فشقَّ على النبيِّ صلعم قولُه، فانصرف، فقال ابنُ رَواحةَ: ألَا أراكَ أمسكْتَ على أنفِكَ من بولِ حمارِ رسولِ الله صلعم، والله لهو أطيبُ من ريحِ عَرَضِك، فكان بينهم ضَربٌ بالأيدي والسَّعَفِ، فرجعَ رسولُ الله صلعم، فأصلَحَ بينهم، فنزلَتِ الآيةُ)) انتهى.
          أي: الآتيةُ قريباً مع بيانِ ما قيلَ فيها، وهذا يبيِّنُ أن الرجلَ المبهَمَ في قوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) هو عبدُ الله بنُ رَواحةَ ☺ (مِنْهُمْ) أي: من الأنصار، ولعلَّ فائدةَ ذِكرِ ((منهم)) التَّنبيهُ على أنه ليس بحَليفٍ لهم (وَاللَّهِ لَحِمَارُ) بفتح اللام؛ لأنَّها للابتداء (رَسُولِ اللَّهِ صلعم أَطْيَبُ رِيحاً مِنْكَ) برفع ((أطيبُ)) خبرٌ ((حمارُ)) المصدَرُ بلامِ القسَمِ، و((ريحاً)) تمييزٌ، و((منك)) متعلِّقٌ بـ ((أطيَبُ)) والجملةُ القَسَميَّةُ وجوابُها مَقولُ قال.
          وقال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِ الرجلِ، قال: وزعمَ بعضُ الشُّرَّاحِ أنه عبدُ الله بنُ رَواحةَ، قال: ورأيتُ بخطِّ القُطبِ أنَّ السابقَ إلى ذلك الدِّمياطيُّ، ولم يذكُرْ مستنَدَه في ذلك، فتتبَعْتُ ذلك، فوجدتُ حديثَ أسامةَ بنِ زيدٍ الآتي في تفسيرِ آلِ عِمرانَ بنحوِ قصَّةِ أنسٍ، قال: وفيه: أنَّه وقعَتْ بين عبدِ الله بنِ رَواحةَ وبين عبدِ الله بن أُبيٍّ مُراجَعةٌ، لكنها في غيرِ ما يتعلَّقُ بالذي ذُكرَ هنا، فإن كانتِ القصَّةُ متَّحدةً احتمَلَ ذلك.
          لكنْ سياقُها ظاهرٌ في المغايَرةِ؛ لأنَّ في حديث أنسٍ أنه صلعم أرادَ عِيادةَ سَعدِ بنِ عُبادَة، فمَرَّ بعبدِ الله بنِ أُبيٍّ، وفي حديثِ أنسٍ هذا: أنَّه صلعم دُعيَ إلى إتيانِ عبدِ الله بنِ أُبيٍّ.
          ويحتمِلُ اتِّحادَهما بأنَّ الباعثَ على توجُّهِه العيادةُ، فاتفقَ مرورُه بعبدِ الله بنِ أُبيٍّ، فقيل له حينئذٍ: لو أتيتَه، فأتاه، ويدُلُّ على اتحادِهما أنَّ في حديثِ أسامةَ: ((فلمَّا غَشِيَتِ المجلسَ عَجاجةُ الدابَّةِ خمَّرَ عبدُ الله بنُ أُبيٍّ أنفَه بردائه)) انتهى، فتأمَّلْه.
          (فَغَضِبَ) بكسر الضاد المعجمة (لِعَبْدِ اللَّهِ) أي: ابنِ أُبيِّ بنِ سَلولَ، واللامُ للتعليل (رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي: من قومِ عبدِ الله.
          قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِه.
          (فَشَتَمَا) كذا للأكثر بالبناء للفاعل والتثنيةِ من غير ضميرِ المفعول؛ أي: فشتَمَ كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ: <فشتَمَه> بالإفراد وبذِكر ضميرِ المفعولِ الراجعِ للرَّجلِ من الأنصارِ، وأما ضميرُ الفاعل فهو عائدٌ على الرجلِ الذي من قومِ عبدِ الله.
          (فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي: من المتشاتِمَين (أَصْحَابُهُ) أي: أصحابُ كلِّ واحدٍ منهما (فَكَانَ بَيْنَهُمَا) أي: بين المتشاتِمَين، والأقربُ عَودُه إلى حيَّيهِما أو قومَيهِما (ضَرْبٌ) بالرَّفعِ؛ أي: مُضارَبةٌ (بالجَرِّيدِ) بالجيم المفتوحة والراء للأكثر، وهو الغُصنُ الذي يُجرَّدُ؛ أي: يُزالُ عنه الخُوصُ، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ: <بالحديد> بحاء ودالَين مهمَلات، قال في ((الفتح)): والأولُ أصوبُ.
          (وَالأَيْدِي) جمع: يدٍ (وَالنِّعَالِ) بكسر النون، جمعُ: نَعْلٍ _بفتحها_ معروفةٌ، من جِلْدٍ (فَبَلَغَنَا) بفتحات (أَنَّهَا) أي: الآيةَ (أُنْزِلَتْ) أي: في هذه القضيةِ، / و((أُنزِلَتْ)) _بضم الهمزة مبنياً للمفعول_ للأكثرِ، ووقعَ لأبوَي ذرٍّ والوقتِ والأصيليِّ: <نزَلَتْ> بلا همزٍ مبنياً للفاعل، وبيَّنَ الآيةَ بقوله: ({وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) ثنَّى وجمَعَ باعتبارَين.
          تنبيهان: الأول: قائل: ((فبلغَنا...)) إلخ، أنسُ بنُ مالكٍ ☺، قال في ((الفتح)): بيَّنَه الإسماعيليُّ في روايتِه من طريقِ المُقدَّميِّ، فإنه قال في آخرِه: ((قال أنسٌ: فأُنبِئتُ أنها نزلَتْ فيهم)) قال: ولم أقِفْ على اسمِ الذي أنبأَ أنساً بذلك، ولم يقَعْ ذلك في حديثِ أسامةَ، بل في آخرِه: ((وكان النبيُّ صلعم وأصحابهُ يعفُون عن المشرِكينَ وأهلِ الكتابِ كما أمرَهُم اللهُ، ويصبِرونَ على الأذى)).
          وفي حديثِ أسامةَ أيضاً: ((فلم يزَلِ النبيُّ صلعم يخفِّضُهم حتى سكَتوا)).
          التنبيهُ الثاني: ظاهرُ كلامِ البخاريِّ أنَّ الآيةَ نزلَتْ في هذه القِصَّة، قال ابنُ التِّين: ما ذكرَه البخاريُّ عليه أكثرُ المفسِّرين، ثم قال: وقال مجاهدٌ: الطائفتانِ رجُلانِ، والطائفةُ تكونُ رجلاً إلى ألفٍ؛ أي: أو أكثَرَ، لكنِ استشكلَ ذلك ابنُ بطَّالٍ، فقال: يستحيلُ أن تكونَ الآيةُ نزلَتْ في قصَّةِ عبدِ الله بن أُبيٍّ، وفي قتالِ أصحابِه مع أصحابِ رسولِ الله صلعم؛ لأنَّ أصحابَ عبدِ الله ليسوا بمؤمنين، وقد تعصَّبوا له بعد الإسلام في قصَّةِ الإفك، وقد جاءَ هذا المعنى مُبيَّناً في كتاب الاستئذانِ من روايةِ أسامةَ بنِ زيدٍ: ((مرَّ رسولُ الله صلعم بمَجلِسٍ فيه أَخلاطٌ من المشرِكينَ والمسلمين وعبَدةِ الأوثانِ واليهودِ، وفيهم عبدُ الله بنُ أُبيٍّ، وعَرَضَ عليهم النبيُّ صلعم الإيمانَ، فقال ابنُ أُبيٍّ: اجلِسْ في بيتِكَ، فمَنْ جاءكَ يريدُ الإسلامَ...)) الحديثَ.
          فدلَّ على أنَّ الآيةَ لم تنزِلْ في قصَّةِ ابنِ أُبيٍّ، وإنَّما نزلت في قومٍ من الأَوسِ والخَزرَجِ، اختلفوا في حدٍّ، فاقتَتَلوا بالعِصِيِّ والنِّعالِ، ثم قال ابنُ بطَّالٍ: ويُشبِهُ أن تكونَ أيضاً نزلَتْ في بني عمرِو بنِ عَوفٍ الذين خرجَ إليهم رسولُ الله صلعم ليُصلِحَ بينهم، كذا في ((التوضيح)) و((العمدة)).
          وتقدَّمَ آنِفاً قولُ مقاتلٍ في تفسيرِها، وقال ابنُ عبَّاسٍ في ((تفسيره)): وأعانَ ابنَ أُبيٍّ رجالٌ من قومِه وهم مؤمنون، فاقتَتَلوا، قال ابنُ الملقِّن: ومَن زعَمَ أنَّ قتالَهم كان بالسيوفِ فقد كذَبَ، وهذا يبيِّنُ لك ما استبعدَه ابنُ بطَّالٍ، انتهى.
          وأيَّدَ في ((الفتح)) استِشكالَ ابنِ بطَّالٍ، فقال: ولا سيَّما إن كانتْ قصَّةُ أنسٍ وأسامةَ متَّحدةً، فإنَّ في روايةِ أسامةَ: ((فاستبَّ المسلمون والمشركون)) قال: إلا أن يُحمَلَ على التَّغليب، مع أنَّ فيها إشكالاً من جهةٍ أخرى؛ وهي أنَّ حديثَ أسامةَ صَريحٌ في أنَّ ذلك كان قبلَ وَقْعةِ بدرٍ، وقبلَ أن يُسلِمَ عبدُ الله بنُ أبيٍّ وأصحابُه، والآيةُ المذكورةُ في الحُجُرات، ونزولُها متأخِّرٌ جداً؛ لأنَّه كانَ وقتَ مجيءِ الوفودِ، قال: لكن يحتمِلُ أن تكونَ آيةُ الإصلاحِ نزلَتْ قديماً، فيندفِعُ الإشكالُ، انتهى.
          وقال أيضاً: القصَّةُ التي في حديث أنسٍ مُغايرةٌ للقصَّةِ التي في حديثِ سَهلِ بنِ سعدٍ الذي قبلَه؛ لأنَّ قصَّةَ سهلٍ في بَني عَمرِو بنِ عوفٍ، وهم من الأوسِ، وكانت منازِلُهم بقُباءٍ، وقصَّةُ أنسٍ في رَهطِ ابنِ أُبيٍّ وسعدِ بنِ عُبادةَ، وهم من الخَزرَجِ، وكانت منازِلُهم بالعالية، قال: ولم أقِفْ على سببِ المخاصَمةِ بين بني عمرِو بنِ عوفٍ في حديثِ سهلٍ.
          وفي الحديث: / بيانُ ما كان عليه النبيُّ صلعم من الصَّفْحِ والحِلْمِ والصَّبرِ على الأذى في الله، والدُّعاءِ إلى الله تعالى، وتأليفِ القلوبِ على ذلك، وفيه أنَّ ركوبَ الحِمارِ لا نقْصَ فيه على الكِبارِ، وفيه: ما كان عليه الصَّحابةُ من تعظيمِ رسولِ الله صلعم والأدبِ معَه والمحبَّةِ الشديدة، وأنَّ الذي يشيرُ على الكبيرِ بشيءٍ يُورِدُه بصورةِ العَرْضِ عليه لا الجزم، وفيه: جوازُ المبالَغةِ في المدحِ؛ لأنَّ الصحابيَّ أطلَقَ أنَّ ريحَ الحِمارِ أطيبُ من ريحِ عبد الله بنِ أُبيٍّ، وأقرَّه النبيُّ صلعم على ذلك.