الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس

          ░2▒ (باب) بالتنوين (لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ) ترجَمَ بـ ((الكاذب)) باسمِ الفاعل، وساقَ الحديثَ بلفظ: ((الكذَّاب)) بصيغةِ المبالغةِ؛ لحصولِ المطابَقةِ في الجملة، لكنَّه أشارَ بالترجمةِ إلى لفظِ حديثِ مُسلم ٍمن روايةِ مَعمَرٍ عن ابنِ شهابٍ، نبَّهَ عليه في ((الفتح)) كما هو عادتُه الغالبةُ فيما لم يكُنْ على شَرطِه، على أنِّي رأيتُ في بعضِ الأصول الصَّحيحةِ هنا الحديثَ كالترجمةِ، ثم قال في ((الفتح)): وكان حقُّ السِّياقِ أن يقولَ: ليسَ مَن يُصلِحُ بين الناسِ كاذباً، لكنَّه وردَ على طريقِ القَلْبِ، وهو سائغٌ، انتهى.
          واعترضَه العَينيُّ: بأنَّ المصنِّفَ راعى لفظَ الحديثِ، ودعوى القلبِ لا دليلَ عليها، مع أنَّ قولَه في الحديث: ((ليس الكذَّابُ)) من باب:ذي كذا؛ أي: ليسَ بذي كَذِبٍ، كما قيلَ في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فإنَّ المرادَ: نفيُ أصلِ الظُّلمِ عنه تعالى، انتهى مُلخَّصاً.
          وأقول: ما في ((الفتح)) من دعوى القَلبِ هو المتبادَرُ من الحديثِ، وعليه جرى الكِرمانيُّ وغيرُه، وإنِ احتمَلَ غيرَه، وكلاهما جائزٌ، ولو قُرئَ: ((الكاذبَ)) بالنَّصبِ على أنه خبرُ ((ليس)) مقدَّماً لم يكُنْ فيه قَلبٌ، فتدبَّرْ.وتأويلُ ((الكذَّاب)) بذي الكَذِبِ في الحديثِ غيرُ لازمٍ، كما في الآية، فتأمَّل.
          والمرادُ أنه لا يأثَمُ في كَذِبه مَن يُصلِحُ بين الناسِ بكَذِبه، وهذا أحدُ المواضعِ التي يجوزُ فيها الكَذِبُ.
          ثانيها: أن يَعِدَ امرأتَه أو أمَتَه أو نحوَ ولدِه الصَّغيرِ بشيءٍ ليُصلِحَ أمرَه، وإن لم يفِ بما وعدَ.
          ثالثُها: في الحرب، ففي ((مسلم)) و((النَّسائيِّ)) من رواية سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ في آخرِ الحديث: ((لم أسمَعْه يرخِّصُ في شيءٍ مما يقولُه الناسُ أنَّه كَذَبَ إلا في ثلاثٍ، فذكَرَها)) وهي: الحَربُ، والإصلاحُ بين الناسِ، وحديثُ الرجلِ امرأتَه، لكنْ هذه الزيادةُ مُدرَجةٌ من كلامِ الزُّهريِّ كما بيَّن ذلك مسلمٌ، وما في ((فوائد ابنِ أبي مَيسَرةَ)) بسندِه عن ابنِ شِهابٍ من الاقتِصَارِ على الزيادةِ فوَهمٌ، كما في ((الفتح)).
          وقال الطَّبريُ: جوَّزَ قومٌ الكذبَ في هذه الثلاثة، وقاس بعضُهم عليها أمثالَها، ومنعَه بعضُهم مُطلَقاً، وحمَلوا ما في الحديثِ على التَّورِيةِ والتَّعريضِ، كمَنْ يقولُ للظَّالم: دعَوتُ لك أمسِ، وهو يريدُ قولَه: اللهمَّ اغفِرْ للمسلمين، ويَعِدُ نحوَ امرأتِهِ بعَطيَّةِ شيءٍ، ويريدُ: إنْ قدَّرَ اللهُ ذلك، وأن يُظهِرَ من نفسِهِ قوَّةً في الحربِ.
          قال في ((الفتح)): وبالأول جزَمَ الخَطَّابيُّ وغيرُه، وبالثاني جزَمَ المهلَّبُ والأصيليُّ وغيرُهما، وسيأتي في باب الكذبِ في الحَربِ في أواخرِ الجهادِ مَزيدٌ لذلك، واتَّفقوا على أنَّ المرادَ بالكَذبِ في حقِّ المرأةِ أو الرجلِ إنَّما هو فيما لا يسقُطُ حقًّا عليه أو عليها، أو أَخذِ ما ليسَ له أو لها، وكذا في الحربِ في غَيرِ التَّأمينِ، قال: / واتَّفقوا على جوازِ الكَذِبِ عند الاضطرار، كما لو قصد ظالمٌ قتلَ رجلٍ وهو مُختَفٍ عنده، فله أن ينفيَ كونَه عندَه، ويَحلِفَ على ذلك، ولا إثمَ عليه، انتهى.
          وقال المهلَّبُ: إنَّما أطلَقَ عليه السَّلامُ للمُصلِحِ أن يقولَ ما عَلِمَ من الخيرِ بين فريقَين، وأن يسكُتَ عما سَمِعَ من الشرِّ بينهم، لا أنه يُخبِرُ بالشَّيءِ على خلافِ ما هو عليه، ومثلُ هذا ساكتٌ، ولا يُنسَبُ للسَّاكتِ قولٌ.
          قال في ((الفتح)): ولا حُجَّةَ فيه لمَنْ قال: يُشترَطُ في الكَذبِ القَصدُ؛ لأن هذا ساكتٌ، وكذا قال في ((المصابيح)): ليس في تبويبِ البخاريِّ ما يقتضِي جوازَ الكذبِ في الإصلاحِ، وذلك لأنَّه قال: ليس الكاذِبُ الذي يُصلِحُ بين الناس، وسَلْبُ الكاذبِ عن الإصلاحِ لا يستلزِمُ كونَ ما يقولُه كَذِباً؛ لجوازِ أن يكونَ صِدْقاً بطريقِ التَّصريحِ أو التعريض.