الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها

          2426- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ) بالمدِّ وفتح الدَّال؛ أي: ابنُ أبي إياسٍ، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجَّاج، (وحدَّثني) بالإفرادِ، والواو في فرعِ ((اليونينيَّة)) مكتوبٌ عليها علامة أبي ذرٍّ، وفي غيرِ الفرعِ: <(ح) للتَّحويل حدَّثني> بالإفراد أيضاً، وفي بعضِ النُّسخ: <(ح) وحدَّثني> بالجمعِ بين الأمرينِ (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحدةِ وتشديدِ الشين المعجمةِ، وهو المعروفُ ببُنْدَار.
          قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) بضم الغينِ المعجمةِ وفتحِ الدال المهملةِ، هو: محمَّد بنُ جعفرٍ، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجَّاج.
          قال في ((الفتح)): هكذَا ساقَهُ عالياً ونازلاً، والسِّياق؛ يعني: لفظَ الحديثِ للنَّازلِ، وأخرجهُ البيهقِيُّ من طريقِ آدم مطوَّلاً.
          (عَنْ سَلَمَةَ) بفتحات؛ أي: ابن كُهَيل مصغَّراً، أنَّه قال: (سَمِعْتُ سُوَيْدَ) بالسين المهملة والواو مصغَّراً (ابْنَ غَفَلَةَ) بالغين المعجمةِ والفاء واللام مفتوحات، هو: أبو أميَّة الجعفيُّ الكوفي التَّابعيُّ الكبيرُ المخضرمُ، أسلمَ في حياةِ رسولِ الله صلعم لكنَّه لم يرهُ، بل قدمَ المدينةَ يومَ دفنِ النَّبيِّ صلعم.
          قال الكرمانيُّ: وقيل: / إنَّه صَحابيٌّ، والأوَّل أصحُّ ماتَ سنة ثمانين، وله مائة وعشرون سنة، انتهى.
          وقال في ((التقريب)): ماتَ سنة ثمانين وله مائة وثلاثونَ سنة، وقال العينيُّ: ورويَ عنه أنَّه قالَ: أنا لِدَةُ رسولِ الله صلعم ولدْتُ عامَ الفيلِ، ورويَ عنه أنَّه صلَّى مع النَّبيِّ صلعم، والأوَّل أثبتُ، انتهى.
          وعنهُ: أنا أصغرُ من رسولِ اللهِ بسنتين، وليسَ له في البخاريِّ إلَّا هذا الحديث، لكن ذكرهُ في مواضعَ، وآخر عن عليٍّ في ذكر الخوارجِ، قاله في ((الفتح)) في باب: هل يأخذُ اللُّقطة ولا يدعها تضيعُ.
          (قَالَ) أي: سويدٌ (لَقِيتُ) أي: بمكَّة، كما في الكرمانيِّ (أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) ☺، هو أبو المنذر كنَّاهُ بها رسولُ اللهِ صلعم ويكنَى أيضاً: بأبي الطُّفيل، كناهُ بها عُمر بن الخطَّاب بابنٍ له، الخزرجي سيِّد القُرَّاء، وكان مِن فُضلاءِ الصَّحابةِ وسادَاتِهِم.
          قال في ((التَّهذيب)): ثبتَ في ((صحيح)) البُخاريِّ ومسلم عن أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قرأَ على أبيِّ بن كعبٍ سُورة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة:1] وقال: ((أمرَني اللهُ ╡ أن أقرأَ عليكَ))، قال: وهيَ منقبةٌ عظيمةٌ لم يُشَاركهُ فيها أحدٌ من النَّاسِ.
          وقال أيضاً: وهو أوَّلُ مَن كتَبَ لرسُولِ اللهِ صلعم حين قدِمَ المدينةَ، وهو أوَّلُ من كتبَ في آخرِ الكتاب وكتبهُ فلانُ بنُ فلان، قال: وتوفِّي أبي في المدينةِ ودُفِن بها، قيل: سنةَ ثلاثين، وقيل: سنةَ اثنين وثلاثين في خلافةِ عُثمان.
          قال أبو نُعَيم: وهو الصَّحيحُ، وقال ابنُ عبد البرِّ: والأكثرُ أنَّه ماتَ في خلافةِ عُمر، وقيل: سنةَ اثنين وعشرين، انتهى ما في ((التهذيب)) ملخَّصاً.
          وقال في ((التقريب)): واختلفَ في سنةِ وفاتِهِ اختلَافاً كثيراً.
          (فَقَالَ) أي: أبيٌّ ☺ (أَخَذْتُ) وللكُشميهنيِّ: <وجدْتُ>، وللمستمليِّ: <أصبتُ> (صُرَّةً) بضم الصاد المهملة (مِائَةَ دِينَارٍ) بنصب: ((مائة)) بدلاً من: ((صرَّة))، قال العينيُّ: ويجوزُ رفعها بتقديرِ فيها مائة دينارٍ، وقال القسطلانيُّ: كذا في النُّسخة المقروءةِ على الميدوميِّ: <وجدتُ صرَّةً فيها مائة دينارٍ>.
          وأقولُ: وجدتُها كذلك في نسختينِ معتمدتينِ.
          (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم) أي: بالصُّرَّة (فَقَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم لي (عَرِّفْهَا) بكسر الراء مشددة؛ أي: هذه الصُّرَّة (حَوْلاً) أي: سنةً، كأن يُنادي: من ضاعَ له شيءٌ أو صرَّةٌ أو ضائع مثلاً فليطلبهُ عندِي أو فليأتِني أو نحو ذلك، وهذا التَّعريفُ يكونُ في الموضعِ الذي وجدَها فيه، ويكون في الأسواقِ ومجامعِ النَّاس كأبوابِ المساجدِ لا في المساجِدِ، فإنَّهُ يكرَهُ فيها إذا كان برفعِ الصَّوت على الصَّحيحِ كما في ((شرح المهذب)) وإن اقتضَى كلام ((الروضة)) التَّحريم، وصوَّبهُ الأذرعيُّ وغيرُه، كما لا تطلبُ فيها، بل يقالُ لهُ: لا ردَّ الله عليكَ ضالَّتكَ، نعم يُستثنى المسجدُ الحرامِ؛ لأنَّه مجمعُ الناسِ واعتباراً بالعرفِ، ولأنَّ لُقطة الحرَمِ لا تُملكُ بحالٍ فالتَّعريفُ فيه محضُ عبادةٍ.
          قال ابنُ حَجر في ((التُّحفة)): وبه يردُّ على من ألحقَ به مسجدَ المدينةِ والأقصَى، ولو التقطَهَا في نحو الصَّحراء، وهناك قافلةٌ تبعَهَا وعرَّفَها فيها وفي أقربِ مكانٍ إليها، وإلَّا ففي بلدِ الملتَقِطِ، والمعنى في تعرِيفِها سنة: أنَّها لا تتأخَّر فيها القَوافلُ وتستوعبُ الفصُولَ الأربعةَ، ولو التقطها اثنانِ عرَّفها كلٌّ منهما سنةً على ما اعتمدَهُ ابنُ الرِّفعةِ وكثيرون، واختارَهُ في ((التُّحفة)).
          ورجَّحَ السُّبكي وآخرون: أنَّهما يعرِّفانها ولو منفردين سنةً كلُّ واحد نصفَهَا، وجرى عليه الرَّمليُّ تبعاً لشرحِ الرَّوضِ، / ولا يشترطُ الفورُ في التَّعريفِ ولا الموالاةُ ولا استيعابُ السَّنَة، بل على العادَةِ بحيث ينسبُ إلى ما قبله، وغايةُ التأخيرِ شهرٌ ففي ابتداء التقاطها يعرِّفُها كلَّ يومٍ مرَّتين في طرفي النَّهار، ثمَّ في كل يومٍ مرَّةً ثم في كلِّ أسبوعٍ مرة.
          وقوله: (فَعَرَّفْتُهَا) بتشديد الراء المفتوحة؛ أي: الصُّرَّة (حَوْلَهَا) بنصبه على الظرفية مضافاً إلى ضمير الغائبة، وسقطَ: <حولها> لأبي ذرٍّ، ووقعَ في بعضِ النُّسخ: <حولاً> بالتنكيرِ (فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا) بفتح التحتية وكسر الراء مخففة (ثُمَّ أَتَيْتُهُ) أي: النبيَّ عليه السَّلام.
          (فَقَالَ: عَرِّفْهَا) أمرهُ بالتَّعريف (حَوْلاً) أي: آخرَ (فَعَرَّفْتُهَا) بفتح الراء المشدَّدة؛ أي: حولاً (فَلَمْ أَجِدْ) أي: من يعرِّفها (ثُمَّ أَتَيْتُهُ) أي: فأخبرتهُ بأنِّي عرَّفتها سنةً فلم أجدْ من يعرِّفها، وقوله: (ثَلاَثاً) ظاهرهُ أنَّه أتى ثلاثاً بعد المرَّتين الأوليين، وليس بمرادٍ بدليل سُقوط: ((ثلاثاً)) من رواية مسلمٍ، بل ثلاثاً معمول لمحذوف؛ أي: ثمَّ أتيتُه مرَّةً أُخرى فصارَتْ مع اللَّتين قبلها ثلاثاً، هكذا قرَّرهُ شيخُ الإسلامِ.
          ولعلَّ الأقربَ ما يفيدهُ كلام العينيِّ أنَّه مفعولٌ مطلقٌ لـ((أتيته))، وأن ((ثمَّ)) زائدةٌ، كما قالهُ الأخفشُ والكوفيُّون في قولهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] الآية.
          (فَقَالَ) أي: النبيُّ صلعم، ولأبي الوقتِ: <قال> (احْفَظْ وِعَاءَهَا) بكسر الواو والمد وقد تضم الواو، وقرأَ الحسنُ به من قولهِ تعالى: {وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:76] وقرأَ سعيد بنُ جبيرٍ: ▬إعاءَ أخيهِ↨ بقلب الواو المكسُورة همزة؛ أي: التي تكونُ اللُّقطة فيه من خِرْقةٍ أو جلدٍ أو كيسٍ (وَعَدَدَهَا) أي: مقدَارَها (وَوِكَاءَهَا) بكسر الواو والمد، الخيطُ الذي يشدُّ به رأسُ الصُّرَّة أو الكيسُ أو نحوهما، وذلك ليعرفَ صدْقَ مدَّعيها ولئلا تختلطَ بمالهِ، وهل الأمرُ للوجوبِ أو النَّدبِ؟ جرى ابنُ الرِّفعة على الأوَّل، واختارَ الأذرعيُّ أنَّه للنَّدبِ ويسنُّ كتابةُ هذه الأشياءَ، قال الماورديُّ: وأنَّه التقطَهَا من موضعِ كذَا في وقتِ كذا.
          (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) أي: مالكُها، فارددْهَا إليه، فحذفَ جزاءُ الشَّرطِ للعلمِ به.
          قال ابنُ مالكٍ: تضمَّنَ حذف جواب ((إن)) الأولى، وحذفُ شرطِ ((إن)) الثَّانية، وحذفُ الفاء من جوابها، والأصلُ: فإن جاءَ صاحبُها أخذَها، وإنْ لا يجئ فاستمتِعْ بها، انتهى.
          وفي روايةِ أحمدَّ والترمذيِّ والنسائيِّ من طريق الثَّوري، وأحمدَ وأبي داود من طريق حمَّاد كلُّهم عن سلمةَ بن كُهيل في هذا الحديثِ: فإنْ جاءَ أحدٌ يخبركَ بعددِهَا ووعَائها ووكَائها فأعطِهَا إيَّاه؛ أي: وجُوباً اعتمَاداً على الوصْفِ من غيرِ بيِّنةٍ، وبهِ قال المالكيَّةُ والحنَابلةُ.
          وقال الحنفيَّةُ والشَّافعيَّةُ: يجوزُ للمُلتقطِ دفعَها إليه على الوصْفِ، ولا يجبرُ على الدَّفعِ؛ لأنَّه يدَّعِي مالاً في يدِ غيرِه فيحتاجُ إلى البيِّنة لعمومِ قولهِ صلعم: ((البيِّنةُ على المُدَّعي)) فيحملُ عندهُم الأمرُ بالدَّفعِ في الحديثِ على الإباحةِ جمعاً بين الحديثينِ، فإنْ أقامَ شاهدين بها وجبَ الدَّفعُ وإلاَّ لم يجبْ، ولو أقامَ مع الوصْفِ شاهداً بها ولم يحلفْ معهُ لم يجبْ الدَّفعُ إليه، فإنْ قالَ له: يلزمكَ تسليمها إليَّ، فلهُ إذا لم يعلمْ صدقَة الحلف أنَّه لا يلزمُه ذلك، ولو قال: تعلمُ أنَّها ملكِي، فله الحلفُ أنَّه لا يعلم؛ لأنَّ الوصفَ لا يفيدُ العلمَ، كما صرَّحَ به في ((الرَّوضة)).
          لكن يجوزُ له بل يستحبُّ كما نقلَ عن النَّصِّ الدَّفعُ إليه إنْ ظنَّ صدقهُ في وصفهِ لها عملاً بظنِّه ولا يجب؛ لأنه مدَّعٍ فيحتاجُ إلى حجَّةٍ، فإن لم يظنَّ / صدقَه لم يجزْ له ذلك، ويجبُ الدفعُ إليه إن علمَ صدقَهُ ويلزمُه الضَّمانُ لا إن ألزمَهُ بتسليمِهَا إليه بالوصفِ حاكمٌ يرى ذلك كمَالكيٍّ وحنبليٍّ فلا تلزمُه العهدَةُ لعدمِ تقصيرهِ في التَّسليمِ، فإن سلَّمَها إلى الواصِفِ باختيارِهِ من غيرِ إلزامِ حاكمٍ له ثمَّ تلفَّتَ عند الواصِفِ وأثبتَ آخرُ بها حجَّة وغرِمَ الملتقِطُ بدلها رجعَ الملتَقِطُ بما غرمُهُ على الواصِفِ إن سلمَ اللُّقطةَ له ولم يقرَّ له الملتقِطُ بالملكِ لحصُولِ التَّلف عندهُ، ولأنَّ الملتقِطَ سلَّمَه بناءً على ظاهرِ الوصْفِ، وقد بانَ خلافُه فإن أقرَّ له بالملكِ لم يرجعْ عليه مؤاخذةً له بإقرارِهِ.
          (وَإِلاَّ) أي: وإنْ لم يجِئْ صاحبُها (فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) أي: بعد التملُّكِ باللُّقطةِ؛ كتملُّكِهَا ويكفِي إشارةُ الأخرسِ بالتملُّكِ، وكذا كتابتُه مع النِّيَّة ويُستثنَى من ذلكَ ما لو كانَتْ اللُّقطَةُ أمةً تحلُّ للمُلتقطِ فليسَ له أن يتملَّكَها.
          وقوله: (قَالَ فَاسْتَمْتَعْ) أي: بالصُّرَّة من كلام أبيِّ بن كعبٍ، وقوله: (فَلَقِيتُهُ)... إلخ من كلامِ شعبةَ لسلمةَ بيَّنتهُ روايةُ مسلمٍ وأبي داود عن شعبةَ قال: أخبرَني سلمةُ بن كُهيلٍ واقتصرَ الحديثُ، كما نبَّه عليه في ((الفتح))؛ أي: قال شعبةُ بن الحجَّاجِ فلقيتُ سلمةَ بن كُهيلٍ (بَعْدُ) بالضم؛ أي: بعد مُدَّةٍ (بِمَكَّةَ) أي: فيها.
          (فَقَالَ) أي: سلمةُ بن كُهيلٍ (لاَ أَدْرِي ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِداً) فالشَّاكُّ سلمةَ، والقائلُ لا أدري: سويدُ بن غَفَلة.
          قال في ((الفتح)): وأغرَبَ ابنُ بطَّال فقال: الذي شكَّ فيه هو أبيُّ بن كعْبٍ، والقائلُ هو سُويد بنُ غَفَلة، انتهى.
          قال: ولم يُصِبْ في ذلك وإنْ تبعَه جماعةٌ منهم المنذريُّ، بل الشَّكُّ فيه من سلمَةَ لما استثبته فيه شُعبة، ورواهُ جماعةٌ غيرُ شعبةَ عن سلمةَ، وفيه هذه الزِّيادة قال: وأخرجَها مسلمٌ من طريقِ الأعمشِ والثَّوريِّ وزيدِ بن أبي أُنيسَة وحمَّاد بن سلمَةَ، كلُّهم عن سلمةَ، وقالوا في حديثهِم جميعاً ثلاثة أحوالٍ بالجزمِ إلَّا حماد بنُ سلمةَ فإنَّ في حديثهِ عامين أو ثلاثة.
          قال: وجمعَ بعضُهم بين حديثِ أبيِّ بن كعبٍ هذا، وبين حديثِ زيد بنِ خالدٍ الآتي في البابِ عقبَهُ، فإنَّه لم يختلِفْ عليه في الاقتصَارِ على سنةٍ فقال: يحملُ حديث أبيَّ بن كعبٍ على مزيدِ الورعِ مُبَالغةً في التَّعفُّفِ، وحديث زيدٍ على ما لا بدَّ منه أو لاحتياجِ الأعرابيِّ واستغناءِ أبي.
          وقال ابنُ الجوزيِّ: يحتملُ أن تعريفَها في الحولينِ الأوَّلين لم يكُنْ كافياً؛ لأنَّه لم يقعْ على الوجهِ الذي ينبغِي، كما قال للمُسيءِ صلاتَهُ: ((ارجعْ فصَلِّ فإنَّك لم تصَلِّ)) انتهى.
          واعترضَهُ في ((الفتح)): بأنَّ هذا بعيدٌ على مثلِ أبيِّ بن كعبٍ مع كونهِ من فقهاءِ الصَّحابةِ، انتهى.
          قال المنذريُّ: لم يقلْ أحدٌ من أئمَّة الفتوى أنَّ اللُّقطةِ تعرف ثلاثةَ أعوامٍ إلا شيءٌ جاءَ عن عُمر، انتهى.
          وحكاهُ الماورديُّ عن بعضِ الفقهاءِ، وكذا حكى الخطَّابي الإجماعَ على الاكتفاءِ بحولٍ واحدٍ، وحكى ابن المنذرِ، كما في ((الفتح)) عن عُمر بن الخطَّاب أربعة أقوالٍ يعرفُها: ثلاثةُ أحوالٍ، عام واحدٌ، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام، وزادَ ابنُ حزم عن عُمر قولاً خامساً وهو: أربعةُ أشهرٍ، ثمَّ جزمَ هو وابنُ الجوزيِّ على أنَّ هذه الزِّيادة غلطٌ قال: والذي يظهرُ أنَّ سلمَةَ أخطأَ فيها، ثمَّ تثبَّتَ فتذكَّر واستمرَّ على عامٍ واحدٍ ولا يعملُ إلَّا بما لم يشكَّ فيه راويهِ.
          وحكى في ((هداية الحنفية)) روايةً عندهُم: أنَّ الأمرَ في التعريفِ مفوَّضٌ لرأيِ الملتقِطِ، فعليهِ أن يعرِّفِها مدَّةً يغلبُ على ظنِّهِ أن صاحبَهَا لا يطلبُهَا، انتهى.
          وقال فيها أيضاً: إن كانت أقلَّ من عشَرةِ دراهمَ فعرِّفْها أربعةَ أيَّام، وإنْ / كانَتْ عشرةً فصَاعداً عرِّفها حولاً، وهذه روايةٌ عن أبي حنيفةَ، وقدَّر محمَّدٌ بالحولِ من غيرِ تفصيلٍ بينَ القَليلِ والكَثيرِ، انتهى.
          والصَّحيحُ من مذهبِ الشَّافعيَّة: أنَّه لا يشترطُ في اليَسيرِ تعريفُه سنةً، بل يكفِي تعريفَه مدَّة يظنُّ أن فاقدَهُ يعرضُ عنه غالباً.
          تنبيه: ظاهرُ قولهِ هنا: ((وإلَّا فاستمتِعْ بها))، يدلُّ على أنه يتصرَّفُ فيها، لكنْ بعدَ تمليكها سواءٌ كان غنيًّا أو فقيراً، وهو مذهَبُ الشافعيَّةِ وجماعةٍ، وقد أخذها أبيُّ بن كعبٍ بأمرِ النَّبيِّ صلعم وهو من مياسيرِ أهلِ المدينةِ.
          وقال أبو حنيفة: إن كان غنيًّا لم يجُز له الانتفاعُ بها، بل يتصدَّقُ بها على فقيرٍ، فإن جاءَ صاحبُها وأمضى الصَّدقةَ فذاكَ، وإلَّا فله أن يضمنَه إيَّاها، وأمَّا إذا كان الملتقطُ فقيراً فله أن يستمتعَ بها.
          وقال مالكٌ في ((المدونة)): أحبُّ إليَّ أن يتصدَّقَ بها ويخيَّر إذا جاءَ صاحبُها في غرامتِهَا، وعنه يخيَّرُ بين ثلاثةِ أشياء: الصَّدقةُ بشرطِ الضَّمان، أو تركها أمانةً في يدِهِ، أو تملُّكها وتكونُ في ذمَّتهِ على كراهيَةِ في ذلك، كذا ذكرَ هذه الأشياءَ ابنُ الملقِّنِ مع فروعٍ أُخر، وأطالَ كالعينيِّ فراجعهما.
          ومن ذلك ما نقلهُ ابن الملقِّن عن ابن بطَّال من قولهِ: زعمَ بعضُ من ينسبَ نفسهُ إلى العلمِ وهو رجلٌ يعرفُ بداود بن علي أنَّها لا تدفعُ إلى صاحبِهَا بعدَ الحولِ استدلالاً بقولهِ عليه السَّلام: ((فشأنُكَ بها)) قال: فإنَّه يدلُّ على تملُّكها، وهو مخالفٌ لما عليهِ إجماعُ أئمَّة الفتوى مِن أنَّه إذا جاءَ صاحبُها بعد السَّنة يجبُ دفعهَا إليه لقولهِ في الحديثِ: ((فإنْ جاءَ صاحبُها بعدَ السَّنةِ فأدِّها إليه فهي وَدِيعةٌ عند ملتَقِطِها)) لكنَّه يستمتعُ بها قبل ظهُور صاحبِهَا، فلو قلنَا بما قالَهُ هذا الَّذي خرَقَ الإجماعَ لأدَّى إلى تناقضِ السُّننِ، إذ قال: فأدِّها إليه، فيحمَلُ قولُه: ((فشأنُك بها)) على ما إذا لم يوجَدْ مالكهَا، وبذلك تجتمِعُ الأحاديثُ ويندفعُ التَّناقضُ، انتهى ملخَّصاً.
          وسيأتي لذلك تتمَّةٌ في بابِ: إذا لم يوجدْ صاحبُ اللُّقطةِ بعدَ سنةٍ فهي لمَن وجدَهَا.
          وحديثُ البابِ أخرجَهُ مسلمٌ في اللقطةِ، وكذا أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه في الأحكامِ، والنَّسائي في اللُّقطةِ.