الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب شرب الأعلى قبل الأسفل

          ░7▒ (باب شُرْبِ الأَعْلَى قَبْلَ الأَسْفَلِ) بضم شين ((شُرب)) في الأصولِ التي رأيناها، ولو قُرئَ بكسر الشينِ بمعنى النصيبِ لم يمتنِعْ، قال القسطلانيُّ: ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <قبلَ السُّفلى> انتهى.
          وفي ((الفتح)) و((العمدة)): في رواية الحمويِّ والكُشميهنيِّ: <قبل السُّفلى> انتهى.
          ورأيتُ في بعض الأصولِ ضبْطَه بفتحِ اللام، تأنيثِ الأسفل، كالفُضلى تأنيثِ الأفضل، وكلامُ العينيِّ الآتي يقتضيه، ولو قُرئَ بكسر اللام وتحتيَّةٍ مشدَّدةٍ على أنه نسبةٌ إلى السُّفل _بضم السين_ نقيضِ العُلوِّ كما في ((القاموس)) لم يمتنِعْ، و((الأسفل)) كـ((الأعلى)) صفةٌ لمحذوف؛ أي: المكانِ الأعلى والمكانِ الأسفل، أو الشَّخصِ الأعلى والشَّخصِ الأسفل، فنسبةُ الشُّربِ إليه مجازٌ، فافهم.
          وروايةُ: <الأعلى> و<الأسفل> قال في ((الفتح)): إنها أَولى، واعترضَه العينيُّ، فقال: لا أولويةَ هنا؛ لأنَّ معنى: ((السُّفلى)) قبلَ صاحب الأرضِ السُّفلى، قال: ويجوزُ أن يُقال في موضع ((الأعلى)): العُليا، على تقديرِ: شُربِ صاحبِ الأرضِ العُليا، فتذكيرُ ((الأعلى)) و((الأسفل)) باعتبارِ الصاحب، وتأنيثُهما باعتبار الأرضِ بالتقدير المذكور، انتهى.
          وأقول: لا يتعيَّنُ التذكيرُ والتأنيثُ باعتبارِ ما ذكره؛ لاحتمالِ أن يكونَ باعتبارِ نحوِ المكانِ أيضاً، ولعلَّ وجهَ الأولويَّةِ التي ادَّعاها في ((الفتح)) كونُ اللفظَينِ في الأولِ على نسَقٍ واحد، وقولُه فيه: وكأنه يشيرُ إلى ما وقع في مُرسَلِ سعيدِ بنِ المسيَّبِ في هذه القصة: ((فقضى رسولُ الله صلعم أن يسقيَ الأعلى ثم الأسفلُ)).
          قال العلماء: الشُّرب من نهرٍ أو مسيلٍ غيرِ مملوكٍ يقدَّمُ الأعلى فالأعلى، ولا حقَّ للأسفلِ حتى يستغنيَ الأعلى، وحدُّه أن يغطِّيَ الماءُ الأرضَ حتى لا تشرَبَه ويرجعَ إلى الجدار، ثم يُطلِقَه، انتهى، فليُتأمَّل.
          وقال الدَّمامينيُّ في ((المصابيح)): واختلفَ أصحابُ مالكٍ في صفةِ إرسالِ الماءِ من الأعلى إلى الأسفل، فقال ابنُ حبيبٍ ومُطرَّفٌ وابنُ الماجشُون: / يُدخِلُ صاحبُ الماء جميعَ الماءِ في الحائطِ ويسقِي به، حتى إذا بلغَ الماءُ من قاعةِ الحائطِ إلى الكعَبينِ من القَائمِ فيه أغلَقَ مدخَلَ الماء، وصرَفَ ما زادَ من الماء على مِقْدارِ الكعبَين إلى مَنْ يَليه، فيصنَعُ به مثلَ ذلك حتى يبلُغَ ماءُ السَّيلِ إلى أقصَى الحوائط.
          وقال ابنُ وهبٍ وابنُ القاسم: إذا انتهى الماءُ في الحائطِ إلى مِقدارِ الكعبَينِ أرسلَه كلَّه إلى من تحتَه ولم يحبِسْ منه شيئاً في حائطِه، ورجَّحَ ابنُ حبيبٍ الأوَّلَ بأنَّ مُطرَّفاً وابنَ الماجشُونَ من أهلِ المدينة، وبها كانتِ القصَّةُ فهما أقعد بذلك، انتهى.
          قال: وظاهرُ الحديثِ مع ابنِ القاسم؛ لأنَّه قال: ((احبِسِ الماءَ حتى يبلُغَ الجَدْرَ)) والذي يبلُغُ الجَدْرَ هو الماءُ الذي يدخُلُ الحائطَ، فمُقتضى اللفظِ أنه هو الذي يُرسِلُه كلَّه بعد هذه الغاية، فينزِلُ الماءُ بجملتِه من الحوضِ الأول إلى الثاني، ولا يبقى منه في الأول شيءٌ، وهي طريقةُ السَّقيِ بديارِ مصرَ في بعض النواحي، وأما بعضُها الآخرُ فعلى الصورةِ التي ذكرَها ابنُ الماجِشونَ يحبِسونَ الماء الذي في الحوضِ على الحائط، ويُرسِلونُ ما عداه، وهي طريقةُ حوائطِ الإسكندرية، انتهى ما في ((المصابيح)) ملخَّصاً، فاعرفه.
          وفي الحديثِ فوائدُ أُخَرُ ستذُكَرُ إن شاء الله في الباب التالي لهذا.