الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن رسول الله كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان

          2027- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ): أي: ابنُ عبد الله بن أبي أويسٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي): بالإفراد (مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ): بغير ياءٍ آخرَه (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ / إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ): بفتح المثنَّاة الفوقيَّة فسكون التحتيَّة فميم، نسبة إلى تيمٍ.
          (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ): بفتحات (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ) وسقطت ((من)) في بعض الأصول المعتمدة (رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَاماً): أي: في عام؛ أي: سنةً ويرادفُها الحول، وقيل: العامُ أخصُّ مِن السَّنة.
          قال في ((المصباح)): العامُ: الحولُ، والنِّسبة إليه على لفظه، وقال في ((التَّهذيب)) للأزهريِّ: العامُ حولٌ يأتي على شتوةٍ وصيفةٍ، قال: فعلى هذا العامُ أخصُّ مِن السَّنة، وإذا عددت من يومٍ إلى مثله فهو سَنَةٌ، وقد يكونُ فيه نصف الصَّيف ونصف الشِّتاء، والعامُ لا يكون إلَّا صيفاً وشتاءً متواليين، وقال ابنُ الجواليقيِّ: لا يفرِّق عوامُّ النَّاس بين العامِ والسَّنة، والصَّواب ما قاله ثعلبٌ مِن أنَّ السَّنة مِن أيِّ يومٍ عددته إلى مثله، والعامُ لا يكون إلَّا شتاءً وصيفاً، انتهى ملخَّصاً.
          والمشهورُ أنَّ العامَ والسَّنةَ والحولَ بمعنًى كما يُستفاد من ((القاموس)) وغيرِه، وأنَّ تعريفه اسمٌ غير منقولٍ ولا متجوَّز فيه، وأمَّا قول القسطلانيِّ هنا: ((عاماً)) مصدر عام إذا سبح، يُقال: عام يعومُ عوماً وعاماً، قال: فالإنسانُ يعومُ في دنياه على الأرضِ طول حياتِه حتَّى يأتيَه الموت فيغرق فيها، انتهى، ففيه ما فيه؛ فتأمَّل.
          (حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ): بنصب ((ليلة)) على ما في الفرع وغيرِه، وضبطه بعضُهم برفعِها على أنَّه فاعل كان التامَّة، والمراد: حتَّى إذا كان استقبال ليلة إحدى وعشرين؛ لأنَّ المعتكِفَ العَشر الأوسط يخرجُ قبل دخول ليلة الحادي والعشرين؛ لأنَّها من العشر الأخير، ويُستفاد من قوله: ((إذا كان ليلة إحدى وعشرين))...إلخ أنَّ قوله: ((مَن كان اعتكف))...إلخ كان قبل الحادي والعشرين كما ذكره الكرمانيُّ (وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ صَبِيحَتِهَا): ولأبي ذرٍّ عن الحمُّوي والمستملي: <مِن صبيحتِها>.
          (مِنِ اعْتِكَافِهِ): أي: مِن تمام اعتكافِه في العَشر الأوسط، وهو متعلِّقٌ بـ((يخرج))، أو بمحذوف حالٍ مِن ((صبيحتها)) (قَالَ): أي: رسولُ الله (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي): أي: في العَشر الأوسط (فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ): بالواو، ولأبي ذرٍّ عن الحمُّوي والمستملي: <فقد>.
          (أُرِيتُ): بضمِّ الهمزة، وفي بعض الأصول: <وقد رأيت> بالواو في ((قد)) وبلا همزٍ أوَّل ((رأيت)) (هَذِهِ اللَّيْلَةَ): بنصب ((هذه)) على أنَّه مفعولٌ به لا ظرف، والإشارة إلى ليلةِ القدر المعلومة مِن السِّياق، ويجري ذلك في مرجع ضمائرها (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا): أي: أنسَاني اللهُ ليلةَ القدر.
          قال الطبريُّ: ليس معناه أنَّه رأى اللَّيلةَ والأنوار عياناً ثمَّ نسيَ في أيِّ ليلة رأى ذلك؛ لأنَّ مثل هذا قلَّ أن يُنسى، وإنَّما رأى أنَّه قيل له: ليلةُ القدر ليلةُ كذا وكذا، ثمَّ نسيَ كيفَ قيل له، وقال في ((الفتح)) فيما سيأتي نقلاً عن القفَّال معناه: أنَّه رأى مَن يقول له في النَّوم: ليلةُ القدر ليلةُ كذا وكذا، وعلامتُها كذا وكذا، وليس معناه: أنَّه رأى ليلةَ القدر نفسها؛ لأنَّ مثل ذلك لا يُنسى، انتهى.
          وجملة: (وَقَدْ رَأَيْتُنِي): بضمِّ التاء، حاليَّةٌ؛ أي: رأيتُ نفسي (أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا): ((من)) بمعنى: في كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، وقيل: هي لابتداءِ الغايةِ الزَّمانيَّة (فَالْتَمِسُوهَا): أمرٌ (فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ): أي: مِن رمضان (وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ): أي: من رمضان أيضاً (فَمَطَرَتِ): بفتحاتٍ (السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ): يُقال في اللَّيلة الماضية: اللَّيلة إلى أن تزول الشَّمس، فيُقال حينئذٍ: البارحة.
          (وَكَانَ الْمَسْجِدُ): أي: مسجد رسولِ الله (عَلَى عَرِيشٍ): بفتح العينِ المهملة أوَّله وشين معجمة آخره، وهو كالعرشِ؛ بمعنى: السَّرير، وعرشُ البيت: سقفُه، والخيمة والبيت الَّذي يستظلُّ به، والجمعُ: عروشٌ وعُرُشٌ وأعراشٌ وعريشةٌ، كذا في ((القاموس)) و((المصباح))، ولا يناسبُ هنا شيءٌ من هذه المعاني، فليُتأمَّل.
          ثمَّ رأيتُ الكرمانيَّ قال: والعريشُ ما يُستظلُّ به والسقف والخشب، انتهى، واقتصر في ((الصِّحاح)) على ما يُستظلُّ به، وعلى ذلك جرى شيخُ الإسلام، وزادَ: ((على)) بمعنى الباء كما في قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} [الأعراف:105]، أو بمعنى من كما في نسخةٍ نحو قوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:2]، انتهى.
          وقال الزركشيُّ وتبعه القسطلانيُّ: وكان المسجدُ على عريشٍ؛ أي: مظلَّلاً بجريدٍ ونحوِه ممَّا يستظلُّ به، يريد أنَّه لم يكن له سقفٌ يكن مِن المطر، انتهى، وقال ابنُ الملقِّن نقلاً عن صاحب ((العينِ)): العريشُ شبهُ الهودجِ، وعريشُ البيت سقفُه، وقال الدَّاوديُّ: كأنَّ الجريدَ بُسِط فوق الجذوع بلا طينٍ، فكان المطرُ يسقط داخلَ المسجد، وكان عليه السَّلام لمَّا بنى مسجدَه أخرجَ قبورَ المشركين، فقطع النَّخل الَّتي كانت فيه، فجعل منها سَواريَ وجذوعاً، وألقَى الجريد عليها، فقيل له بعد ذلك: يا رسولَ الله؛ أَلَا تبنيه؟ قال: ((عريشٌ كعريش موسى))، انتهى.
          (فَوَكَفَ): بفتح الكاف؛ أي: فقطرَ (الْمَسْجِدُ): ومنه: وَكَفَ الدَّمع (فَبَصُرَتْ): بضمِّ الصَّاد المهملة، وفي بعض الأصول: <فنظرت> (عَيْنَايَ): بالتَّثنيةِ، مرفوعٌ بالألف (رَسُولَ اللَّهِ): بالنَّصب (صلعم عَلَى / جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ): برفع ((أثر)) على أنَّه فاعل الجارِّ والمجرور إن جعلْناه حالاً مِن رسول الله صلعم، ويجوزُ جعله خبراً مقدَّماً، و((أثر)) مبتدأ مؤخَّر، والجملة حالٌ أيضاً (مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ): أي: ليلة مِن رمضان، متعلِّق بالفعل، ويحتملُ جعله حالاً من ((أثر)) على تقدير مضافٍ؛ أي: ناشئاً مِن فعل ((صبح إحدى وعشرين))، وتقدَّم في التمَاسِ ليلة القدرِ الجمعُ بين قولِهِ هنا: ((من صبح إحدى وعشرين)) وبين قولِهِ هناك: ((صبيحة عشرين)).
          تتمَّةٌ: قال ابنُ الملقِّن: للمعتكِف قراءةُ القرآن والحديثِ والعلم وأمور الدين وسماعُ العلمِ خلافاً لمالكٍ، وعن ابن القاسمِ: لا يجوزُ له عيادةُ المريض، ولا مدارسةُ العلم، ولا الصَّلاةُ على الجنازةِ خلافاً لابن وَهْبٍ، ولا بأسَ بتطييبِهِ.
          وقال الشَّافعيُّ في ((الأمِّ)): لا بأسَ أن يقصَّ فيه؛ لأنَّه وعظٌ وتذكيرٌ، وفي ((شرح الهداية)): يُكره التَّعليم في المسجدِ بأجرةٍ، وكذا كتابةُ المصحف بها، وقيل: إن كان الخيَّاط يخيط في المسجد فلا بأسَ.