نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت

          2011- (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هو: ابنُ أبي أويس، عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي، وهو: ابنُ أخت الإمام مالك (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكٌ) بن أنس الأصبحي الإمام (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) / محمَّد بن مسلم الزُّهري (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ ♦، زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم صَلَّى، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) هكذا ساق الحديث مختصراً هنا فذكر كلمة من أوَّله وشيئاً من آخره، وقد ساقه تامًّا في أبواب التهجُّد، في باب تحريض النَّبي صلعم على قيام اللَّيل والنَّوافل من غير إيجاب. ولفظه: أنَّ رسول الله صلعم صلَّى ذات ليلة في المسجد، فصلَّى بصلاته ناس، ثمَّ صلَّى من القابلة فكثر النَّاس ثمَّ اجتمعوا من اللَّيلة الثَّالثة أو الرَّابعة فلم يخرج إليهم، فلمَّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتُم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلَّا أنِّي خشيت أن يفرضَ عليكم، وذلك في رمضان [خ¦1129]، وقوله: قد رأيت الذي صنعتُم؛ أي: من حرصكم على صلاة التَّراويح، وقوله: وذلك في رمضان، من قول عائشة ♦، وهو إشارة إلى ما فعله صلعم من صلاته في اللَّيلتين.
          وقد استدلَّ بهذا الحديث على أنَّ الأفضل في قيام رمضان أن يفعلَ في المسجد في جماعة لكونه صلَّى معه ناس في تلك اللَّيالي، وأقرَّهم على ذلك، وإنَّما تركه لمعنىً قد أُمِنَ بوفاته صلعم وهو خشية الافتراض، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمَّد والشَّافعي وأصحابه وأحمد وبعض المالكيَّة.
          وقد روى ابنُ أبي شيبة فعله عن عليٍّ وابن مسعود وأبيِّ بن كعب وسويد بن غَفَلة وغيرهم ♥ . وأمر به عمر بن الخطاب ☺، واستمرَّ به عمل الصَّحابة ♥ وسائر المسلمين، وصار من شعائر الإسلام كصلاة العيد، وبالغ الطَّحَّاوي فقال: إنَّ صلاة التَّراويح في الجماعة واجبةٌ على الكفاية.
          وقال ابن بطَّال: قيام رمضان سنَّة؛ لأن عمر ☺ إنَّما أخذه من فعل النَّبي صلعم ، وإنَّما تركه النَّبي صلعم خشية الافتراض.
          وذهب آخرون إلى أنَّ فعلها فرادى في البيتِ أفضل عملاً بعموم قوله صلعم : ((أفضل صلاة المرء في بيته إلَّا المكتوبة)) وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ☺، ولأنَّه صلعم واظب عليه كذلك، وتوفِّي والأمر على ذلك / حتَّى مضى صدر من خلافة عمر ☺، وقد اعترف عمر ☺ بأنَّها مفضولة كما مرَّ [خ¦2010]، وبذلك قال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعيَّة.
          وأُجيب: بأنَّ الحديث المذكور يستثنى منه أيضاً ما يكون من شعائر الإسلام، وبأنَّ ترك المواظبة على الجماعة فيها إنَّما كان لمعنىً وقد زال، وبأنَّ عمر ☺ لم يعترف بأنَّها مفضولة، وقوله: ((والتي ينامون عنها أفضل)) [خ¦2010] ليس فيه ترجيح الانفراد، ولا ترجيحُ فعلِها في البيت، وإنَّما فيه ترجيح آخر اللَّيل على أوَّله كما صرَّح به الرَّاوي بقوله: يريد آخر اللَّيل.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وعند الشَّافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه:
          ثالثها: من كان يحفظ القرآن، ولا يخاف من الكسل، ولا يختل أمر الجماعة في المسجد بتخلُّفه فصلاته في البيت أفضل، وفرَّق بعضُهم بين من يثق بانتباهه، وبين من لا يثق، والله أعلم.
          2012- (حَدَّثَنَا) وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <وحدَّثني> بواو العطف والإفراد (يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) بضم الموحدة مصغَّر، المخزومي المصري، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) هو: ابن سعد الإمام (عَنْ عُقَيْلٍ) بضم أوله وفتح القاف، هو: ابن خالد (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ): الزُّهري، أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ) هو: ابن الزُّبير بن العوَّام (أَنَّ عَائِشَةَ ♦ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم خَرَجَ) من حجرته الشَّريفة الطيِّبة إلى المسجد.
          (لَيْلَةً) من ليالي رمضان (مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى في المَسْجِدِ، فصَلَّى رِجالٌ بِصَلاتِهِ) مقتدين بها، وقوله: ((فصلى)) الأولى بالفاء والثانية بالفاء (فأصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا) أنَّ النَّبي صلعم صلَّى في المسجد من جوف اللَّيل (فاجْتَمَعَ) في اللَّيلة الثَّانية (أَكْثَرُ مِنْهُمْ) بالرفع على أنَّه فاعل اجتمع (فَصَلَّوْا مَعَهُ) صلعم ، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فصلَّى فصلُّوا معه> (فأصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا) بذلك.
          (فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ) إليهم (رَسُولُ اللَّهِ صلعم فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ) وفي رواية ابن عساكر: <فصلَّى بصلاته> / فأسقط لفظ: ((فصلَّوا))، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فصُلِّي بصلاته> _بضم الصاد على البناء للمفعول_ وإسقاط ((فصلَّوا)) أيضاً (فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ) أي: ضاق (عَنْ أَهْلِهِ، حَتَّى خَرَجَ) صلعم (لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ) أي: صلاته (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) بوجهه الكريم.
          (فَتَشَهَّدَ) أي: أتى بالشَّهادتين، أو أثنى على الله تعالى بما هو أهله في صدر الخطبة (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ) أي: مرتبتكم وحالكم في الاهتمام بالطَّاعة، أو كونكم في الجماعة (وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ) أي: صلاة التَّراويح في جماعة (عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا) بكسر الجيم مضارع عَجَز بفتحها؛ أي: فتتركوها مع القدرة، وظاهر قوله: ((خشيتُ أن يكتب عليكم)) أنَّه صلعم توقَّع ترتُّب افتراض قيام رمضان في جماعة على مواظبتهم عليه، وفي ارتباط افتراض العبادة بالمواظبة عليها إشكالٌ.
          قال أبو العبَّاس القرطبي: معناه يظنُّونه فرضاً للمداومة، فيجب على من يظنُّه كذلك؛ كما إذا ظنَّ المجتهد حلَّ شيء أو تحريمه وجب العمل بذلك، وقيل: إنَّ النَّبي صلعم كان حكمه إذا ثبت على شيءٍ من أعمال القرب واقتدى النَّاس به في ذلك العمل فُرِضَ عليهم. ولذا قال: خشيتُ أن تفترضَ عليكم. انتهى.
          واستبعد ذلك في «شرح التَّقريب» وأجاب بأنَّ الظَّاهر أنَّ المانع له صلعم أنَّ النَّاس يستحلُّون متابعته ويستعذبونها ويستسهلون الصَّعب منها، فإذا فعل أمراً سهَّل عليهم فعله لمتابعته فقد يوجبه الله عليهم لعدم المشقَّة عليهم فيه في ذلك الوقت، فإذا توفِّي صلعم زال عنهم ذلك النَّشاط، وحصل لهم الفتور فشقَّ عليهم ما كانوا استسهلوه، لا أنَّه يفرض عليهم، ولابدَّ كما قال القرطبي: وغايته أن يصير ذلك الأمر مرتقباً متوقَّعاً قد يقع وقد لا يقع، واحتمال وقوعه هو الذي منعه صلعم من ذلك، قال: ومع هذا فالمسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء في ذلك.
          وأجاب الحافظ العسقلاني: بأنَّ المخوف افتراض قيام اللَّيل بمعنى جعلِ التهجُّد في المسجد جماعة شرطاً في صحَّة التنفُّل في اللَّيل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت ☺: / ((حتَّى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلُّوا أيُّها النَّاس في بيوتكم))، فمنعهم من التَّجميع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
          وقال ابن المنيِّر في «الحاشية»: يؤخذ منه أنَّ الشُّروع ملزم، إذ لا يظهر مناسبة بين كونهم يفعلون ذلك ويفرض عليهم إلَّا ذلك، وفيه نظر؛ لأنَّه يحتمل أن يكون السَّبب في ذلك ظهورَ اقتدائهم على ذلك من غير تكلُّف فيفرض عليهم كما مرَّ، كذا قاله الحافظ العسقلاني.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ السَّبب في ذلك ليس ما ذكره؛ لأنَّ ما ذكره أمر لا يوقف عليه في نفس الأمر، وإنَّما السَّبب في ذلك هو أنَّه صلعم خشي أن يفرض عليهم؛ لما جرت به عادتهم أنَّ ما داوم عليه من القرب فرض على أمَّته، وأيضاً خاف أن يظنَّ أحد من أمَّته بعده إذا داوم عليه أنَّها واجبة فتركها شفقة على أمَّته. انتهى.
          وأنت خبير بأنَّ ما ذكره الحافظ العسقلاني لا ينفي كون ما ذكره السَّبب أيضاً؛ لأنَّه قال: يحتمل أن يكون السَّبب...إلى آخره، فالاحتمال لا ينافي الاحتمال الآخر فتدبَّر، والله أعلم.
          قال الزُّهري: (فَتُوُفِي رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) من أنَّ كلَّ واحد يصلِّي قيام رمضان في بيته منفرداً حتَّى جمع عمر ☺ النَّاس على أبيِّ بن كعب ☺ فصلَّى بهم جماعة، واستمرَّ العمل على ذلك، وفي الحديث جواز النَّافلة في المسجد وبالجماعة، وجواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، وأنَّه إذا تعارض مسألتان أو مصلحة ومفسدة اعتبر أهمَّهما؛ لأنَّه لمَّا عارضه خوف الافتراض عليهم تركه؛ لعظم المفسدة التي تخاف من عجزهم عن أداء الفرض، وهذا الحديث قد سبق في باب من قال في الخطبة بعد الثَّناء أمَّا بعد من كتاب الجمعة [خ¦924].