إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب أكل المضطر

          ░38▒ (بابُ) جوازِ(1) (أَكْلِ المُضْطَرِّ) من الميتة (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: ”إذا أكل المضْطَر لقول الله تعالى“: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ}) أمر إباحة ({مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}) من مستلذَّاته، أو من حلالاتهِ ({وَاشْكُرُواْ لِلّهِ}) الَّذي رزقكموها ({إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}) إن صحَّ أنَّكم تخصُّونه بالعبادة وتقرُّون أنَّه مُولي النِّعم، ثمَّ بيَّن المحرم فقال: ({إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}) وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبحُ، وإنَّما لإثباتِ المذكور، ونفي(2) ما عداه، أي: ما حرَّم عليكم إلَّا الميتة ({وَالدَّمَ}) يعني: السَّائل، وقد حلَّت(3) الميتتانِ والدَّمان بالحديث ({وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ}) يعني: الخنزير بجميع أجزائه، وخصَّ اللَّحم؛ لأنَّه مقصودٌ بالأكل ({وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ}) أي: ذبح للأصنام ({فَمَنِ اضْطُرَّ}) ألجئ ({غَيْرَ}) حال، أي: فأكل غير ({بَاغٍ}) للذَّةٍ وشهوةٍ ({وَلاَ عَادٍ}‼) متعدٍّ مقدار الحاجة ({فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:172_173]) أي: فيباح له قدر ما يقعُ به القوام، وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشِّبع لأنَّ الإباحة للاضطرارِ فيتقدَّرُ بقدرِ ما يندفعُ به الضَّرر، والأصحُّ أنَّه يلزمه الأكل، فإن توقَّع حلالًا على(4) قربٍ لم يجزْ غير سدِّ الرَّمق، وإن لم يتوقَّع الحلال فقيل: يجوزُ له الشِّبع والأَظهر سدُّ الرَّمق فقط إلَّا أن يخافَ تلفًا إن اقتصرَ عليه، فيجبُ عليه أن يشبعَ، وله أكل آدميٍّ ميِّت، وقتل مرتدٍّ وحربيٍّ بالغٍ وأكلهما لأنَّهما غير معصومين، وحدُّ الاضطرارِ أن يصلَ به الجوع إلى حدِّ الإهلاكِ، أو إلى مرضٍ يفضِي إليه، وهذا قولُ الجمهور. قال سيِّدي عبد الله بنُ أبي جمرة _نفعني الله ببركاته_: الحكمة في ذلك أنَّ في الميتة سُمِّية شديدة، فلو أكلها ابتداء لأهلكتْه فشرعَ له أن يجوعَ ليصير في بدنهِ بالجوعِ سُمِّية هي أشدُّ من سُمِّية الميتة(5)، فإذا أكل منها حينئذٍ لا يتضرَّر. قال في «الفتح»: وهذا إن ثبتَ حسنٌ بالغٌ في الحسن. وسقط(6) قوله: «{وَاشْكُرُواْ}...» إلى آخره، في رواية أبي ذرٍّ، وقال بعد: {مَا رَزَقْنَاكُمْ}: ”إلى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}“.
          (وَقَالَ) تعالى: ({فَمَنِ اضْطُرَّ}) متَّصلٌ بذكر المحرَّمات المذكوراتِ قبل، أي: فمن اضْطُر إلى الميتة، أو إلى غيرها ({فِي مَخْمَصَةٍ}) مجاعةٍ ({غَيْرَ}) حال ({مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ}) مائل إلى إثم، أي: غير متجاوزٍ سدَّ(7) الرَّمق ({فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ}) لا يؤاخذه(8) بذلك ({رَّحِيمٌ}[المائدة:3]) بإباحة المحظور للمعذورِ.
          (وَقَوْلُـِهُ) بالجرِّ عطفًا على المجرور السَّابق، أو بالرَّفع على الاستئناف: ({فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}) دون(9) ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتكم ({إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ. وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ}) «ما» استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداءِ ولكم الخبر، أي: وأيُّ غرضٍ لكم في أن لا تأكلوا ({مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم}) بُيِّن لكم ({مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}) ممَّا لم يحرَّم بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3] ({إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}) ممَّا حرِّم عليكم فإنَّه حلالٌ لكم في حال الضَّرورة، أي: شدَّة المجاعةِ إلى أكله ({وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ}) أي: يضلُّون فيحرِّمون ويحلِّلون بأهوائهم وشَهَواتهم من غير تعلُّق بشريعةٍ ({إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}[الأنعام:118_119]) بالمجاوزين من(10) الحقِّ إلى الباطلِ، وسقط من قوله: «{مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}...» إلى آخره لابنِ عساكرَ، وقال بعد قوله: {تَأْكُلُواْ}: ”الآية“. وسقط لأبي ذرٍّ من قوله: «{وَمَا لَكُمْ}» إلى آخر «{بِالْمُعْتَدِينَ}».
          (وَقَوْلُهُ(11) جَلَّ وَعَلَا: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}) أي: آكل يأكلُه، ومحرَّمًا نصبُ صفةٍ لموصوفٍ محذوفٍ، حُذِفَ لدَلالة قوله: على طاعمٍ يطعمُه، أي: لا أجدُ طعامًا محرَّمًا. وعلى طاعِمٍ متعلِّقٌ‼ بـ «محرَّمًا»، ويطعَمُه في موضع جرٍّ صفةً لطاعمٍ ({إِلاَّ أَن يَكُونَ}) ذلك المحرَّم، وقدَّره أبو البقاء ومكِّي وغيرهما: إلَّا أن يكون المأكولُ أو ذلك ({مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا}) صفة لدم، والسَّفح: الصَّبُّ، وهو ما خرج من الحيوانات وهي أحياءٌ، أو من الأوداجِ عند الذَّبح، فلا يدخلُ الكبد والطحال لأنَّهما جامدان، وقد جاء الشَّرع بإباحتهمَا، ولا ما اختلطَ باللَّحم من الدَّم لأنَّه غير سائلٍ ({أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}) نجسٌ حرامٌ، والهاء في {فَإِنَّهُ} الظَّاهر عودُها على لحم المضاف لخنزيرٍ. وقال ابنُ حزمٍ: على خنزير لأنَّه أقربُ مذكورٍ، ورُجِّحَ الأوَّل بأنَّ اللَّحم هو المحدث عنه، والخنزيرُ جاء / بعرَضيَّة(12) الإضافة إليه، ألا ترى أنَّك إذا قلت: رأيت غلامَ زيدٍ فأكرمته، أنَّ الهاء تعودُ على الغلام لأنَّه المحدث عنه المقصود بالإخبارِ عنه لا على زيدٍ لأنَّه غير مقصودٍ، ورُجِّحَ الثَّاني بأنَّ التَّحريم المضاف للخنزيرِ ليس مختصًّا بلحمهِ بل بشحمهِ(13) وشعره وعظمه كذلك، فإذا أعدنا الضَّمير على خنزيرٍ كان وافيًا بهذا المقصود، وإذا أعدناهُ على لحمٍ لم يكنْ في الآية تعرُّضٌ لتحريمِ ما عدا اللَّحم ممَّا(14) ذكر.
          وأُجيب بأنَّه إنَّما ذكر اللَّحم دون غيره _وإن كان غيره مقصودًا بالتَّحريم_ لأنَّه أهمُّ ما فيه وأكثرُ ما يقصد فيه اللَّحم كغيره من الحيوانات، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيصِ اللَّحم بالذِّكر، ولو سلِّم فإنَّه يكون من باب مفهومِ اللَّقب وهو ضعيفٌ جدًّا، وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} إمَّا على المبالغةِ بأن جعل نفس الرِّجس، أو على حذف مضاف ({أَوْ فِسْقًا}) عطفٌ على المنصوب السَّابق، وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه ({أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}) في موضعِ نصب صفة لفسقًا، أي: رفع الصَّوت على ذبحهِ باسم غيرِ اسم الله، وسُمِّي بالفسقِ لتوغُّله في باب الفسق ({فَمَنِ اضْطُرَّ}) فمن دعته الضَّرورة إلى أكلِ شيءٍ من هذه المحرَّمات ({غَيْرَ بَاغٍ}) على مضطرٍّ مثله تاركٍ لمواساته ({وَلاَ عَادٍ}) متجاوزٍ قدرَ حاجتهِ من تناوله ({فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنعام:145]) لا يؤاخذه، وسقط لأبي ذرٍّ وابن عساكرَ من قوله: «{طَاعِمٍ}...» إلى آخره، وقالا(15) بعد قوله: {مُحَرَّمًا}: ”إلى {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا}“.
          (قَالَ(16) ابْنُ عَبَّاسٍ) ممَّا وصله الطَّبريُّ في تفسير {مَّسْفُوحًا} أي: (مُهَرَاقًا. وَقَالَ) جلَّ وعلا: ({فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ}) على يدي(17) محمَّدٍ صلعم ({حَلالاً طَيِّبًا}) بدلًا عمَّا(18) كنتُم تأكلونه حرامًا خبيثًا من الأموال المأخوذةِ بالغاراتِ والغصوبِ وخبائثِ الكسوب ({وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.‼ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}) وهي: ما فارقه الرُّوح من غير ذكاة ممَّا يذبح ({وَالْدَّمَ}) السَّائل ({وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ}) بجميعِ أجزائه ({وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}) ذبح للأصنامِ فذكرَ عليه غير اسمِ الله ({فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النحل:114_115]) وسقط قوله: «{وَاشْكُرُواْ}» إلى آخر قولهِ: «{لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ(19) وهذه آية النَّحل، وثبتتْ هنا لكريمة(20)، ولم يذكر المؤلِّف في هذا الباب حديثًا اكتفاء بالنُّصوص القرآنيَّة، أو بيَّض له ليجد حديثًا على شرطهِ فيثبته فيه فلم يجدْه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصَّواب.


[1] في (ص): «حكم».
[2] في (م): «دون».
[3] في (د): «حل».
[4] في (س): «عن».
[5] في (م): «الميت».
[6] قال الشيخ قطة ☼ : أي: لأبي ذر، كما يفهم من الفرع المزي وغيره، وهو ساقط من قلم الشارح.
[7] في (د): «حد».
[8] في (ب) و(د): «يؤاخذ».
[9] في (د): «أي دون».
[10] في (د): «عن».
[11] في (م): «قال».
[12] في (م): «بفريضة»، وفي (د): «لفرضية».
[13] في (ب) و(س): «شحمه».
[14] في (ص): «بما».
[15] في (د): «وقال».
[16] في (د) و(م): «وقال».
[17] في (د): «يد».
[18] في (م): «مما».
[19] قوله: «وسقط قوله.. {لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}»: ليس في (د).
[20] «لكريمة»: ليست في (د).