التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام

          ░2▒ (بَابُ: مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ العَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ
          وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ رَدَّ عَلَى المُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ، ثُمَّ نَهَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَهُ، لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ).
          ░3▒ (بَاب: وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ، وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاَحِ وَالقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ وَقَالَ لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي البَيْعِ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ _صلعم_ مَالَهُ).
          ثمَّ ساق حديث ابنِ عُمَرَ.
          2415- وحديثَ جابرٍ في بيع المدبَّر، وفي آخره: (فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ).
          الشَّرح: هذان الحديثان سلفا [خ¦2117] [خ¦2141]، والتَّعليق الأوَّل: هو حديث جابرٍ الَّذي أسنده بعد، وهذا التَّعليق ذُكر بغير صيغة جزمٍ، وهو صحيحٌ لا كما قاله ابنُ الصَّلاح ومَنْ تَبعه، وكلام مالِكٍ هذا ذكره ابنُ وَهْبٍ في «موطَّئه» إلى قوله: (لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ)، ومَا بعده مِنْ كلام البُخاريِّ، وليس في أكثر الأصول ذكرُ بابٍ إثرَ ذلك.
          وقوله: (وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ...) إلى آخره المراد به حديثُ جابرٍ المذكورُ.
          وقوله: (وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ) قد سلف مِنْ حديث الْمُغِيرةِ قريبًا [خ¦2408]، وهذِه التَّرجمة وسياقُه فيها حديثُ المدبَّر، وحديثُ الَّذي يُخدَع في البيوع مِنْ محاسن البُخاريِّ اللَّطيفةِ كما نبَّه عليه ابنُ الْمُنيِّر؛ لأنَّ العلماء اختلفوا في سفيه الحال قبل الحُكم هل تُردُّ عقودُه، فاختار البُخاريُّ ردَّها واستدلَّ بحديث المدبَّر، وذكر قول مالِكٍ في ردِّ عتق المِدْيَان قبل الحَجْر إذا أحاط الدَّين بماله، ويَلزم مالكًا ردُّ أفعالِ سفيه الحال؛ لأنَّ الحَجْر في السَّفيه والمِدْيَان مطَّرد، ثمَّ فهم البُخاريُّ أنَّه يَرِدُ عليه حديثُ الَّذي يُخدع في البيوع، فإنَّه _◙_ اطَّلع على أنَّه يُخدَع، وأمضى أفعالَه الماضيةَ والمستقبَلة، فنبَّه على أنَّ الَّذي تُردُّ أفعاله / هو الظَّاهرُ السَّفَهِ البيِّنُ الإضاعةِ كإضاعة صاحب المدبَّر.
          والتَّفصيلُ بين الظَّاهرِ السَّفَهِ والخفيِّ السَّفهِ أحدُ أقوال مالِكٍ، وأنَّ المخْدوعَ في البيوع يمكنُه الاحتراز، ثمَّ فَهم البُخاريُّ أنَّه يَرِدُ عليه كون النَّبِيِّ _صلعم_ أعطى صاحبَ المدبَّر ثمنه، فلو كان مَنْعُهُ لأجل السَّفه لَما سلَّم إليه الثَّمنَ، فنبَّه على أنَّه إنَّما أعطاه بعد أنْ علَّمه طريقَ الرُّشد وأمرَه بالإصلاح والقيامِ بشأنه ومَا كان السَّفهُ حينئذٍ فِسْقًا، وإنَّما نَشأ مِنَ الغَفلةِ وعدمِ البَصيرة بمواقع المصالح، فلَمَّا بيَّنها له كفاه ذلك، ولو ظهر له بعد ذلك مِنْ حاله أنَّه لم ينتبه ولم يَرْشُدْ لَمَنَعَهُ التَّصرُّفَ مطلقًا وحَجَر عليه حَجْرًا مطَّردًا.
          والأقوال الثَّلاثة الَّتي أشرنا إليها:
          أحدها: قولُ مالِكٍ وأصحابِه غيرِ ابنِ القاسِمِ أنَّ فِعلَ السَّفيهِ وأَمْرَه كلُّه جائزٌ حتَّى يضربَ الإمام على يديه، وهو قول الشَّافعيِّ.
          ثانيها: لابنِ القاسِمِ أنَّ أفعالَه غيرُ جائزةٍ وإنْ لم يضرب عليه الإمام.
          ثالثها: لأَصْبَغَ إنْ كان ظاهرَ السَّفَهِ فأفعالُه مَرْدودةٌ، وإنْ كان غيرَ ظاهرِ السَّفَه، فلا تردُّ عليه أفعالُه حتَّى يَحْجُرَ عليه الإمامُ.
          واحتجَّ سُحْنُونٌ لقول مالِكٍ بأنْ قال: لو كانت أفعالُه مَرْدودةً قبل الحَجْر ما احتاج السُّلطان أنْ يَحْجُر على أحدٍ، واحتجَّ غيره بأنَّ الشَّارع أجاز بيع الَّذي كان يُخدَع في البيوع، ولم يذكر في الحديث أنَّه فَسخ ما تقدَّم مِنْ بُيوعه، وحُجَّة ابنِ القاسِمِ حديثُ جابِرٍ أنَّه _◙_ ردَّ عتق الَّذي أعتقَ عبدَه ولم يكن حَجَر عليه قبل ذلك، ولَمَّا تنوَّع حكمُ الشَّارع في السَّفيهين نظرَ بعضُ الفقهاء في ذلك فاستعملَ الحديثين جميعًا، فقال: ما كان مِنَ السَّفَهِ اليسير والخِداع الَّذي لا يكاد يُسلم مِنْه مع تنبُّه المخدوع إليه والشَّكوى به، فإنَّه لا يوجِب الضَّربَ على اليد، ولا ردَّ ما وقع له قبل ذلك مِنَ البيع، ولا انتزاعَ مالِه، كما لم يَرُدَّ _◙_ بَيْعَ الَّذي قال له: ((لاَ خِلاَبَةَ)) ولا انتزع ماله.
          وما كان مِنَ البيع فاحشًا في السَّفَهِ فإنَّه يُردُّ كما ردَّ الشَّارعُ تدبيرَ العبدِ المذكور؛ لأنَّه لم يكن أبقى لنفسه سيِّدُه مالًا يعيش به، فردَّ عِتْقَهُ وصَرَفَ إليه مَالَهُ الَّذي فوَّته بالعِتْقِ؛ ليقومَ به على نفسه ويؤدِّيَ مِنْه دَينه، وإنَّما ذلك على قدر اجتهاد الإمام في ذلك ومَا يراه، وقد سلف الكلام فيمَنْ باع وغُبِنَ في حديث ابنِ عُمَرَ فراجعْه.
          وقوله: فاشتراهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ، صوابُه: حَذف (بْنُ)، وإنَّما هو: نُعَيْمٌ النَّحَّامُ، ووقع في «شرح ابنِ بَطَّالٍ» أيضًا: ابنُ النَّحَّام، وقد عرفتَ صوابه.