شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت

          ░7▒ بَابُ: إِذَا خَافَ الجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ المَرَضَ أَوِ المَوْتَ أَوْ خَافَ العَطَشَ يتَيَمَّمُ(1).
          وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بنَ العَاصِ(2) أَجْنَبَ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيْمًا}(3)[النِّساء:29]فَذَكَرَ ذَلِكَ للنَّبيِّ صلعم فَلَمْ يُعَنِّفْ.
          فيهِ: أَبُو مُوسَى أَنَّه قَالَ لابنِ مَسْعُودٍ: إِذَا لَمْ تَجِدِ المَاءَ لَا تُصَلِّي، قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ في هَذَا كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ البَرْدَ، قَالَ: هَكَذَا _يعني(4) تَيَمَّمَ_ وَصَلَّى، قَالَ(5): قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. [خ¦345]
          وَقَالَ(6) أَبُو مُوسَى مَرِّةً لابنِ مَسْعُودٍ: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحمَنِ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ نجِدْ مَاءً كَيْفَ نَصْنَعُ(7)؟ فَقَالَ(8) عَبْدُ اللهِ: لا يُصَلِّي حتَّى يَجِدَ المَاءَ(9)، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبيُّ صلعم: (كَانَ يَكْفِيكَ؟)، قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بقولِ عَمَّارٍ، فَقَالَ أبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَول عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ في هَذَا لأوْشَكَ إِذَا بَرَدَ على أَحَدِهِمُ المَاءُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ، قَالَ الأَعْمَشُ: فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ(10): فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُ اللهِ لِهَذَا؟ فَقَالَ(11): نَعَمْ. [خ¦346]
          قال ابنُ القَصَّارِ: كلُّ من خاف التَّلف مِن(12) استعمال الماء جاز له تركه وتيمَّم(13) بلا خلافٍ بين فقهاء الأمصار في ذلك، وأمَّا إن خاف الزِّيادة في مرضه ولم يخف التَّلف، فقال مالكٌ: يجوز له التَّيمُّم، وهو قول أبي حنيفةَ والثَّوْرِيِّ، واختلف قول الشَّافعيِّ، فقال مثل قول مالكٍ، وقال(14): لا يعدل عن الماء إلَّا أن يخاف التَّلف، وقد رُوِيَ عن مالكٍ مثل هذا. وقال عَطَاءٌ والحَسَنُ البَصْرِيِّ _في رواية_: لا يُستباح التَّيمُّم بالمرض أصلًا، وكرهه طَاوُسٌ، وإنَّما يجوز للمريض التَّيمُّم مع(15) عدم الماء، فأمَّا مع وجوده فلا، وهو قول أبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ. والدَّليل لجواز التَّيمُّم وإنْ لم يخفِ التَّلف ما احتجَّ به أبو مُوسَى على ابنِ مَسْعُودٍ من قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً(16)}[النساء:43]، ولم يفرِّق بين مرضٍ يُخاف منه(17) التَّلف أو مرضٍ يخاف(18) زيادته، فهو عامٌّ في كلِّ مرضٍ إلَّا أن يقوم دليلٌ. وأمَّا قصَّة عَمْرِو بنِ العَاصِ(19): ((فإنَّ النَّبيَّ صلعم وَلَّاهُ غَزْوَةَ ذاتِ السَّلَاسِلِ، فاحتَلَمَ في ليلةٍ باردةٍ، فقَالَ: إنِ اغتَسَلْتُ هَلَكْتُ، فتَيَمَّمَ وصَلَّى بالنَّاسِ، فأَتَى النَّبيَّ صلعم فقَالَ لَهُ: صَلِّيْتَ بالنَّاسِ وأَنْتَ جُنُبٌ؟ قَالَ(20): سَمِعْتُ اللهَ ╡ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيْمًا}[النساء:29]، فضَحِكَ النَّبيُّ صلعم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا)). ففي هذا الخبر فوائدٌ: منها: جواز التَّيمُّم للخائف مِن استعمال الماء. والثَّانية: جواز التَّيمُّم للجُنُبِ، بخلاف ما رُوِيَ عن عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ. والثَّالثة: جواز التَّيمُّم لأهل(21) البرد. والرَّابعة: أنَّ المتيمَّم يُصَلِّي بالمتطهِّرين. وأيضًا فإنَّ الرُّخص كلَّها تستباح بلحوق المشقَّة ولا تقف على خوف التَّلف كالفطر وترك القيام في الصَّلاة، فإنَّ المريض يفطر إذا شقَّ عليه الصَّوم، ولا(22) يُقال له: لا تفطر حتَّى تخاف التَّلف، وكذلك المضطر إلى أكل الميِّتة إذا لحقه الجوع الشَّديد وإن لم يخفِ التَّلف. وأجمع الفقهاء أنَّ المسافر إذا كان معه ماءٌ وخاف(23) العطش أنَّه يُبقي ماءه للشرب ويتيمَّم. وأجمعوا أنَّ الجُنُبَ يجوز له التَّيمُّم، إلَّا ما رُوِيَ عن عُمَرَ(24) وابنِ مَسْعُودٍ أنَّهما(25) لا يجيزان التَّيمُّم للجُنُبِ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا}[المائدة:6]، وقوله: / {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيْلٍ حتَّى تَغْتَسِلُوا}[النِّساء:43]، وقد رُوِيَ مثل هذا(26) عن ابنِ عُمَرَ، واختُلِفَ فيه عن عليٍّ. وخفيت عليهم السُّنَّة في ذلك من رواية عَمَّارٍ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، وإنَّما استراب عُمَرُ عَمَّارًا في ذلك؛ لأنَّه كان حاضرًا(27) معه فلم يذكر القصَّة وأُنسيها، فارتاب ولم يقنع بقوله، وكان عُمَرُ وابنُ مَسْعُودٍ لما كان مِن(28) رأيهما أنَّ الملامسة في الآية هي ما دون الجِمَاع، وكان التَّيمُّم في الآية يعقب الملامسة منعا الجُنُب التَّيمُّم، ورأيا(29) أنَّ التَّيمُّم إنَّما جُعِلَ بدلًا من الوضوء ولم يُجعل بدلًا من الغُسْلِ، فكان(30) من رأي ابن عَبَّاسٍ وأبي مُوسَى: أنَّ الملامسةَ في الآية الجِمَاع فأجازا للجُنُب التَّيمُّم، ألا ترى أنَّ أبا مُوسَى حاجَّ ابنَ مَسْعُودٍ بالآية الَّتي في سورة النِّساء، فإنَّ(31) الملامسة فيها الجِمَاع، فلم يدفعه(32) ابنُ مَسْعُودٍ عن ذلك ولا قدر أن يخالفه في تأويله للآية فلجأ إلى قوله أنَّه لو رخَّص لهم في هذا كان أحدهم إذا برَد عليه الماء تيمَّم، وقد ذكر ابنُ أبي شَيْبَةَ قال: حدَّثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي سِنَانٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قال: رجع عبدُ اللهِ عن قوله في تيمُّم الجُنُب ولم يتعلَّق أحدٌ من فقهاء الأمصار _من قال: بأنَّ(33) الملامسة الجِمَاع، ومن قال: بأنَّها(34) دون الجِمَاع_ بقول عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ، وصاروا إلى حديث عَمَّارٍ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ في ذلك، إلَّا إنَّهم اختلفوا، ثمَّ أجازوا للجُنُب التَّيمُّم(35)، فمن قال:(36) الملامسة الجِمَاع أوجب التَّيمُّم بالقرآن، وهو قول الكوفيين، ومن قال: الملامسة ما دون الجِمَاع أوجب التَّيمُّم للجُنُبِ بحديث عَمَّارٍ وعِمْرَانَ، وهو قول مالكٍ. قال المُهَلَّبُ: وفي قول أبي مُوسَى لابنِ مَسْعُودٍ: فدعنا مِن قول عَمَّارٍ، كيف تصنع في هذه الآية؟ فيه: الانتقال في الحِجَاج ممَّا فيه الخلاف إلى ما عليه الاتِّفاق، وذلك أنَّه(37) يجوز للمتناظرين(38) عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، ألا ترى أنَّ(39) إبراهيمَ صلعم إذ قال: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيْتُ}[البقرة:258]، قال(40) له النُّمْرُوذُ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيْتُ}[البقرة:258]لم يحتجَّ(41) أن يوقفه على كيفية(42) إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى مُسكتٍ من الحِجَاج فقال(43): {فَإِنَّ(44) اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَاِئْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ}[البقرة:258].


[1] في المطبوع و(م): ((تيمَّم)).
[2] في (م): ((العاصي)).
[3] في (م): ((إنَّه كان)).
[4] قوله ((قال هكذا يعني)) ليس في (م).
[5] قوله ((قال)) ليس في (م).
[6] في (ص): ((فقال)).
[7] في المطبوع: ((فلم يجد ماءً كيف يصنع؟)). في (ص): ((فلم يجد ماء كيف يصنع)).
[8] في (م) و(ص): ((قال)).
[9] قوله ((الماء)) ليس في (م). في (ص): ((ماء)).
[10] في (م): ((لسفيان)).
[11] في (م) و(ص): ((قال)).
[12] في (م): ((على)).
[13] في (م): ((ويتيمَّم)).
[14] في (م): ((قال)).
[15] في (م) والمطبوع و(ص): ((عند)).
[16] زاد في (م): ((فتيمَّموا)).
[17] قوله ((يخاف منه)) ليس في المطبوع و(ص).
[18] في (ص): ((خاف)).
[19] في (م): ((العاصي)).
[20] في (م) والمطبوع و(ص): ((فقال)).
[21] في (م): ((لأجل)).
[22] زاد في (م): ((يجوز أن)).
[23] في (م): ((وخشي)).
[24] في (م): ((يجوز له التَّيمُّم وكان عمر)).
[25] قوله ((أنَّهما)) ليس في (م).
[26] في (م): ((ذلك)).
[27] قوله: ((حاضرًا)) ليس في (ص).
[28] قوله ((من)) ليس في (م).
[29] في (م): ((ورأوا)).
[30] في (م): ((وكان)).
[31] في (م): ((وأنَّ)).
[32] في (م): ((يدعه)).
[33] في (م) والمطبوع و(ص): ((إنَّ)).
[34] في (م) والمطبوع و(ص): ((إنَّها)).
[35] في (م): ((أجازوا التَّيمُّم للجنب)).
[36] زاد في (م): ((إنَّ)).
[37] في (م): ((إنَّما)).
[38] في (م) و(ص): ((للمناظرين)).
[39] قوله: ((أنَّ)) ليس في (م).
[40] في (م): ((فقال)).
[41] زاد في (م): ((إلى)).
[42] قوله: ((كيفيَّة)) ليس في (م).
[43] زاد في (م): ((له)).
[44] في (ص): ((إن)).