شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا لم يجد ماء ولا ترابًا

          ░2▒ بَابُ: إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابًا.
          فيهِ: عَائِشَةُ: (أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلعم رَجُلًا فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا، وَاللهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ(1) تَكْرَهِيْنَهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا). [خ¦336]
          قال المُؤَلِّفُ: الَّذي لا يجد ماءً ولا ترابًا هو المكتوف والمحبوس والمهدوم عليه والمعطوب(2) ومن أشبههم يحضر(3) الصَّلاة، فاختلف العلماء في ذلك، فقالت طائفةٌ: يُصَلُّونَ إيماءً بغير وضوءٍ ولا تيمُّمٍ، كصلاة الطَّالبين للعقد(4)، ولا إعادة عليهم. ذكر ابن أبي زيدٍ أنَّ هذا قول ابن نافعٍ وسَحْنُون، وحكاه ابن القَصَّارِ عن أَشْهَبَ والمُزَنِيِّ وذكره ابنُ المُنْذِرِ عن أبي ثَوْرٍ. وقالت طائفةٌ: يُصَلُّونَ وعليهم الإعادة، هذا قول الثَّوْرِيِّ وابنِ القَاسِمِ وأكثرِ أصحابِ مالكٍ، وهو قول أبي يُوسُفَ(5) ومحمَّدٍ والشَّافعيِّ. وقالت طائفةٌ: لا يُصَلُّونَ حتَّى يجدوا ماءً أو ترابًا فإذا وجدوا ذلك صَلَّوا، هذا(6) قول أبي حنيفةَ والأوزاعيِّ وأصبغَ وابنِ(7) الفرجِ المصريِّ، وقالت طائفةٌ: لا يُصَلُّونَ ولا إعادة عليهم(8). وقال ابن خوازبنداد(9): روى المدنيُّون عن مالكٍ فيمن لا يقدر على الماء ولا على الصَّعيد حتَّى يخرج(10) الوقت أنَّه لا يُصَلِّي ولا إعادة عليه والصَّلاة عنه ساقطةٌ، قال: وهو الصَّحيح مِن مذهب مالكٍ. وروى مَعْنُ بنُ عيسى عن مالكٍ في الَّذي يُكتِّفه الوالي ويمنعه من الصَّلاة حتَّى يخرج وقتها أنَّه لا إعادة عليه، وهذا القول اختيار ابن القَصَّارِ، وحُكِيَ أنَّه مذهب أبي حنيفةَ. ووجه القول الأوَّل _أنَّهم يُصَلُّونَ ولا قضاء عليهم_ أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يأمر الَّذين طلبوا العقد حين صَلَّوا بغير وضوءٍ ولا تيمُّمٍ بالإعادة. قال المُهَلَّبُ: إنْ(11) حكمنا في عدم الشَّرعين(12) _الوضوء والتَّيمم_ كحكمهم في عدم الشَّرع الواحد وهو الوضوء الَّذي كان عليهم، فلمَّا ساغ لهم الصَّلاة بالتَّيمُّم بغير وضوء ساغ لنا الصَّلاة بغير تيمُّمٍ ولا وضوءٍ(13). وقال أبو ثَوْرٍ: القياس فيمن لم يقدر على الطَّهارة أن يُصَلِّي ولا يُعيد، كمن لم يقدر على الثَّوب وصلَّى عريانًا الصَّلاة لازمةٌ له، يُصَلِّي على ما يقدر(14) ويؤدِّي ما عليه بقدر طاقته. وقال ابن القَصَّارِ: كلُّ مَن أدَّى(15) فرضه على ما كلِّفه لم يلزمه إعادةٌ، كالمستحاضة ومَن به سلس البول والعاجز عن أركان الصَّلاة يُصَلِّي على حسب حاله، وكالمسايف والمسافر يحبس الماء خوفًا على نفسه مِن العطش يتيمَّم(16) ويُصَلِّي، كلُّ هؤلاء إذا صَلَّوا على حسب تمكنهم لم(17) تجب عليهم إعادةٌ. ووجه قول مَن قال: يُصَلُّونَ وعليهم إعادة الصَّلاة: فإنَّهم(18) احتاطوا للصَّلاة في الوقت / على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله صلعم: ((لَا َيْقَبُل اللهُ صَلَاةً(19) بِغَيْرِ طَهُوْرٍ))، لمن قدر عليه، ولم يكونوا على يقينٍ من هذا التَّأويل فرأوا الإعادة واجبةً مع وجود الطَّهارة، إذ ليس في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يأمرهم بالإعادة، وقد يحتمل(20) أن يكون أمرهم ولم ينقل ذلك والله أعلم. ووجه قول الَّذين قالوا: لا يُصَلُّونَ حتَّى يجدوا ماءً أو ترابًا: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُوْرٍ))، وليس فرض الوقت بأوكد مِن فرض الطَّهور. وأمَّا رواية مَعْنٍ عن مالكٍ الَّتي(21) اختارها ابن القَصَّارِ، فإنَّه قال: وجه ذلك قوله صلعم: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُوْرٍ)) قال: وهذا دليلٌ على سُقُوط حكمها إذا صلَّى بغير طهورٍ، وإذا(22) سقط عنه أن يُصَلِّي بغير طهورٍ، ومعه عقله لم يجب عليه قضاءٌ كالحائض، وأيضًا فلو وجب عليه ابتداءً الدُخُول في الصَّلاة لو كان طاهرًا لوجب أن يسقط فرضه، فلمَّا قالوا: لا يسقط فرضه، لم تجب عليه، ولو وجب عليه أن يبتدئ الصَّلاة حتَّى يتمَّها ويقضي لأوجبنا عليه صلاتي فرضٍ مِن جنسٍ واحدٍ في يومٍ واحدٍ، وهذا لا يجوز.
          وأمَّا قوله: (فَبَعَثَ رَسُولُ اللهُ صلعم رَجُلًا فَوَجَدَهَا) فإنَّه يُعارض ما رواه القَاسِمُ عن أبيه عن عَائِشَةَ قالت: ((فَبَعَثْنَا البَعِيْرَ الَّذي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ))، وقد حمل إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ على هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، وجعل حديثه مُناقضًا لحديث عبدِ الرَّحمنِ بنِ القَاسِمِ. قال أبو عبدِ اللهِ بنِ أبي صُفْرَةَ: وليس بمناقضٍ، ويحتمل أن يكون قوله: (فَبَعَثَ رَجُلًا)، يعني أُسَيْدًا، فوجدها أُسَيْدٌ بعد رُجُوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النَّبيُّ صلعم وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين مِن موضع طلبها، ويتَّفق الحديثان بغير(23) تعارضٍ، والحمد لله.


[1] قوله ((أمر)) ليس في (م).
[2] في (ز) حاشية: ((المعضوب الضَّعيف والزَّمن لا حراك به. قاموس)).
[3] في (م): ((تحضرهم))، وفي المطبوع: ((تحضره)).
[4] في المطبوع و(ص): ((للعدو)).
[5] في (ص): ((حنيفة)).
[6] في (ص): ((وهذا)).
[7] في (ص): ((ابن)).
[8] قوله ((وقالت طائفةٌ: لا يصلُّون حتَّى يجدوا ماءً أو ترابًا فإذا وجدوا ذلك صلَّوا، هذا قول أبي حنيفةَ والأوزاعيِّ وأصبغَ وابنِ الفرجِ المصريِّ، وقالت طائفةٌ: لا يصلُّون ولا إعادة عليهم)) ليس في المطبوع.
[9] في المطبوع: ((خويز منداد)).
[10] في (م): ((خرج)).
[11] في (م): ((لأنَّ)).
[12] في (م): ((الشَّرعيين)).
[13] قوله ((لمَّا ساغ لهم الصَّلاة بالتَّيمُّم بغير وضوءٍ ساغ لنا الصَّلاة بغير تيمُّمٍ ولا وضوءٍ.)) ليس في (م).
[14] في (ص): ((تقدم)).
[15] في (م): ((ودى)).
[16] قوله ((يتيمَّم)) ليس في (م).
[17] في (م): ((ولا)).
[18] في (م): ((أنَّهم)).
[19] في (م): ((لا تقبل صلاة)).
[20] في (م): ((يجوز)).
[21] في (ص): ((الذي)).
[22] في (م): ((إذا))، وفي المطبوع و(ص): ((فإذا)).
[23] في (ص): ((من غير)).